تبيان الصلاة المجلد 1

اشارة

نام كتاب: تبيان الصلاة

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: بروجردى، آقا حسين طباطبايى

تاريخ وفات مؤلف: 1380 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 8

ناشر: گنج عرفان للطباعة و النشر

تاريخ نشر: 1426 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

شابك:- 51- 93362- 964

مقرر: گلپايگانى، على صافى

تاريخ وفات مقرر: 1430 ه ق

مقدمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة و السّلام على سيد الأنبياء و المرسلين محمد و على آله الطاهرين و لا سيّما على بقيّة اللّه فى الارضين و اللّعنة الدائمة على أعدائهم اجمعين من الآن الى قيام يوم الدّين

و بعد أيّها القارى العزيز هذا الّذي بين يديك هو الكنز العلمي الّذي لا ينفد و الراوية لظمآن التحقيق الّذي لا يظمأ بعده و القلّة الّتي يصعد إليها كلّ من يطلب العلى ممّا ألّفه بطل العلم و التدبّر آية اللّه العظمى الحاج آقا علي الصّافى الگلپايگاني دامت بركاته من محاضرات أبحاث الفقه الّتي القاها سيد الفقهاء و المجتهدين آية اللّه العظمى السيد آقا حسين الطباطبائى البروجردي رحمه اللّه في احكام الصّلاة الّتي هي اكثر من ساير ابواب الفقه من حيث الاصول و الفروع و نحمد اللّه و نشكره على ان يوفّقنا بطبعه و نشره.

و فى الختام يجب علينا كمال التقدير من جناب المؤلّف دام عزّه لا جازته لنا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 6

بطبعه و نشره و من كل من ساعدنا في تحقيقه و تصحيحه و تنظيمه، خصوصا من نجله الشريف الحاج آقا مصطفى الصافي الّذي بذل جهده لاحيائه و لا سيّما من الفاضلين المحترمين، آيتين السيّد محمد الصمدي البهبهاني و الشيخ محمّد رضا الكميلي

الموحّد، الّذين سعيا في تصحيحه و تنقيحه.

و السّلام على من التبع الهدى

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 7

[المقدمة]

بسم اللّه الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله اجمعين و لا سيما على بقية اللّه فى الارضين و لعنة اللّه على أعدائهم من الآن الى قيام يوم الدين.

و لا يخفى عليك أيّها الاخ الأعز أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق الانسان عبثا و لم يتركه سدى، كما قال في كتابه الكريم أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لٰا تُرْجَعُونَ «1» و أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «2» بل هو مكلف و مأمور بتكاليف واجبة و منهية لا بدّ له من الفراغ منها بحكم العقل، و لا يحصل الفراغ منها ألا بالتعلم ممّن جعله اللّه واسطة بينه و بين خلقه من الأنبياء و المرسلين من الآدم الى الخاتم محمد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليهم اجمعين.

و الشيعة تعتقد بأن المرجع الوحيد للرجوع إليه و التمسك به للفراغ من هذه التكاليف هو إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أهل بيته الطاهرين عليهم الصلاة و السّلام الّذين فرض اللّه علينا طاعتهم و وجب علينا معرفتهم، و هم النعمة الّتي ذكرها اللّه

______________________________

(1) سورة المؤمنون، الآية 115.

(2) سورة القيامة، الآية 36.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 8

تعالى في كتابه، و هم الذين لا تخلو الارض من أحدهم، و هم أمان لاهل الارض و لو لا أحدهم في زمان لساخت الارض. «1»

كما نطق بذلك الآيات و هي مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» و إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ «3» و أَطِيعُوا اللّٰهَ

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «4».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في جواب الجابر بن عبد اللّه الانصاري رحمه اللّه السائل عن المقصود من اولى الأمر في الآية الشريفة هم خلفائي و أئمة المسلمين بعدي و الحديث هكذا.

و باسناده الى جابر بن عبد اللّه الانصاري قال لما أنزل اللّه عزّ و جل على نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قلت يا رسول اللّه عرفنا اللّه و رسوله فمن أولو الامر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي اولهم على بن ابى طالب الحسن ثمّ الحسين ثمّ على بن الحسين ثمّ محمد بن على المعروف فى التوراة بالباقر و ستدركه يا جابر فاذا لقيته فاقرأه منّى السّلام ثمّ الصادق جعفر بن محمد موسى بن جعفر ثمّ على بن موسى ثمّ محمد بن على ثمّ على بن محمد ثمّ الحسن بن على ثمّ سميّي و كنيّي حجة اللّه في أرضه و بقيته فى عباده ابن الحسن بن على، ذاك الّذي يفتح اللّه تعالى ذكره على يديه مشارق الارض و مغربها، ذاك الّذي يغيب عن

______________________________

(1)- اصول كافى، ج 1، كتاب الحجة، ص 334 الى 438.

(2)- سورة الحشر، الآية 7.

(3)- سورة آل عمران، الآية 31.

(4)- سورة النساء، الآية 59.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 9

شيعته و اوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بامامته ألّا من امتحن اللّه قلبه للايمان، قال جابر فقلت له يا رسول اللّه فهل ينتفع الشيعة به في غيبته

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم أى و الّذي بعثني بالنبوة أنهم ينتفعون به و يستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و ان تجلاها السحاب، يا جابر هذا من مكنون سر اللّه و مخزون علمه فاكتمه إلا عن أهله «1».

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم فى حديث الثقلين أنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما فلن تضلّوا أبدا.

و نصه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فى حديث الغدير من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلم قد بلّغ الرسالة و أدّى الأمانة كما هى حقها و بيّن ما يحتاج إليه الناس من احكام معاشهم و معادهم و ما يحتاجون إليه في أمر دينهم و عقباهم الى يوم القيامة و لم يخف فى اللّه لومة لائم مع ما وقع عليه من الاذى كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما اوذى نبيّ مثل ما أوذيت.

و لما قضى نحبه قام من نصبه لهذا المقام بأمر اللّه تعالى و هو وصيه بلا فصل و صهره أمير المؤمنين على بن ابى طالب عليه السّلام و هو أيضا مع ما وقع له من المصائب كما قال عليه السّلام (صبرت و فى العين قذى و في الحلق شجى).

قد ادّعى ما عليه كما هو حقه ثمّ قام الحسن ثمّ الحسين ثمّ على بن الحسين عليهم السّلام، و جرى ما جرى و مضى ما مضى الى ان بلغ الامر الى الصادقين عليهما السّلام و حصل لهما بفضل اللّه تعالى مناسبة لبيان الاحكام و فرصة لم يحصل لغيرهما عليهم السّلام

و قد

______________________________

(1) تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 499، ح 331.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 10

استفادا من هذه المناسبة و الفرصة كمال الاستفادة لبيان الاحكام و تربية رجال العلم و قد جمع حولهما رِجٰالٌ لٰا تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ و قد بذلوا جهدهم لفهم العلوم و نشرها و قد عدّوا عددهم أربعة آلاف رجل فيهم الفقيه و المحدث و الفلسفى و الحكمى، و استفادوا من علومهما و صنفوا في كل علم رسالة و سمّيت باصول أربعة مائة و هم عليهما السّلام يكرمون اصحابهم و يعظّمونهم و يرجعون الناس إليهم للبحث و قد ملأ الكتب من المدح منهم عليهما السّلام لاصحابهم «قال ابو عبد اللّه رحم اللّه زرارة لو لا زرارة و نظراؤه لاندرست أحاديث أبي» «1».

قال الباقر عليه السّلام لأبان «اجلس فى (مسجد) مجلس المدينة فأفت الناس فانى أحب ان يرى في شيعتى مثلك» «2». ان أبا عبد اللّه قال لأبان بن عثمان «ان أبان بن تغلب قد روى عنّى رواية كثيرة فما رواه لك عنّى فأروه عنّي» «3».

و اذا مات أبان قال الصادق عليه السّلام (موت أبان أوجع قلبى) و كذلك ديدنهم عليهم السّلام الى زمان العسكرى عليه السّلام من بيان الاحكام فى كل فرصة حصلت لهم و ارجاع الناس الى اصحابهم (احمد بن اسحاق عن ابي الحسن عليه السّلام قال سألته و قلت من أعامل و عمّن آخذ و قول من أقبل فقال العمرى ثقتى فما أدّى أليك عنّى فعنّى يؤدّى و ما قال لك عنّى فعنّى قال فاسمع له و أطع فانّه الثقة المأمون قال و سألت أبا محمد عن مثل ذلك فقال العمرى و ابنه ثقتان

فما أدّيا أليك عنّى فعنّى يؤدّيان و ما قالا لك فعنّى

______________________________

(1) الوسائل، ج 18، ص 104، ح 20.

(2) رجال النجاشى، ص 7- 8.

(3) الوسائل، ج 18، ص 101، ح 8.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 11

يقولان فاسمع لهما و أطعهما فانّهما الثقتان المأمونان «1».

و لما استشهد العسكرى عليه السّلام و وصلت الامامة الى صاحب العصر روحى له الفداء انقطعت السيرة المستمرة من ملاقاة الناس مع الامام عليه السّلام و شرعت الغيبة الصغرى و قد عين عليه السّلام اشخاصا لرجوع الناس إليهم و هم الرابط بينه و بينهم و هم أربعة رجال اولهم عثمان بن سعيد و ثانيهم محمد بن عثمان بن سعيد و ثالثهم حسين بن روح و رابعهم السمرى.

و لما حان سفر السمرى من الدنيا خرج إليه توقيع من الناحية المقدسة (بسم اللّه الرحمن الرحيم يا على بن محمد السمرى اعظم اللّه أجر اخوانك فيك فانّك ميّت ما بينك و بين ستة أيام فأجمع أمرك فلا توص الى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت التامة) «2».

و بعد موته تمت الغيبة الصغرى و شرعت الغيبة الكبرى و لم يعين روحى له الفداء شخصا معينا لرجوع الناس إليه بل بعد ورد التوقيع بخطه الشريف على يد محمد بن عثمان العمرى (أما ما سألت عنه ارشدك اللّه و ثبتك الى ان قال و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه عليهم) «3».

فانّه عليه السّلام أرجع الناس الى رواة حديثهم و هم رضوان اللّه تعالى عليهم قد شدّوا رحالهم و بذلوا جدهم فى بيان الاحكام و ارشاد الناس و ابطال البدع و الدفاع

______________________________

(1)- الوسائل، ج 18، ص 100،

ح 4.

(2)- بحار الانوار، ج 51، ص 361.

(3)- الوسائل، ج 18، ص 101، ح 9، بحار الانوار، ج 53، ص 181.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 12

عن حوزة الدين و احكام سيد المرسلين كمال البذل و الجهد، و قد استشهد بعضهم فى هذا الطريق و صار بعضهم مسجونا و قد ابتلى بعضهم بالنواصب و أهل البدع و قد أحرقوا كتبهم فجزاهم اللّه عن الاسلام خير الجزاء و لم يمنعهم عن هذه المجاهدة شي ء و لم يخافوا في طريق الهدى لقلة أهله و قد أخذ الخلف عن السّلف هذه الطريقة و خذوا خذوهم.

و كلّما آل سوق الدين الى الكساد لجور الظلمة و شياطين الانس و الجن أخرج اللّه بقدرته رجلا لاحياء الدين و إطفاء سنن الجبارين كالكلينى فى المائة الثالثة و المجلسى و الوحيد البهبهاني و المجدد الشيرازي و غيرهم الذين أحيوا الدين و جدّدوا المذهب في رأس كل مائة و لم يستثن أمر الحوزة المقدسة بقم من هذا النوائب و المصائب و المحن في هذا الازمان خصوصا في زمان مؤسس الحوزة العلمية مرحوم آية اللّه العظمى الحاج الشّيخ عبد الكريم الحائرى رحمه اللّه.

و بعد ارتحاله صار أمر الحوزة الى الزوال و لم تبق على حالته السابقة لكثرة البلاء و المحن على الحوزة و العلماء من الظلمة و دخالتهم في امر الحوزة و تشتت بال العلماء و الطلاب من جهة هذا الأمر حتّى لم يتمكّنوا لإقامة مجلس العزى له رحمه اللّه و قد بذل المراجع الثلاثة آية اللّه العظمى السيّد محمد الحجة و آية اللّه العظمى السيّد محمد التقى الخوانساري و آية اللّه العظمى السيّد صدر الدين الصدر قدس اسرارهم فى هذا الزمان جهدهم لحفظ الحوزة و

كيانها و تحملوا المصائب و المشاق فجزاهم اللّه خير الجزاء و حشرهم اللّه تعالى مع النبي و آله عليهم السّلام حتّى منّ اللّه تعالى على المسلمين عموما و الحوزة المقدسة خصوصا بورد بطل من ابطال العلم بقم و هو شمس سماء الفقاهة زعيم الحوزة و نائب الحجة آية اللّه العظمى الحاج آقا السيّد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 13

حسين الطباطبائى البروجردي قدس اللّه نفسه الشريفة.

و كونه طباطبائيا باعتبار انتسابه الى جده السابع و العشرين ابراهيم طباطبا و سلسلة اجداده الامجاد على ما كتب على لوح قبره الشريف هكذا آية اللّه العظمى السيّد حسين بن على بن احمد بن على النقى بن الجواد بن المرتضى بن محمد بن عبد الكريم بن المراد بن شاه اسد اللّه بن جلال الدين الامير بن الحسن بن مجد الدين بن قوام الدين بن اسماعيل بن عباد بن ابى المكارم بن عباد بن ابى المجد بن عباد بن على بن حمزة بن طاهر بن على بن محمد بن احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم طباطبا بن اسماعيل ديباج بن ابراهيم الغمر ابن الحسن المثنى.

و بعد أقامته بقم شرع فى التدريس و تربية الطلاب و أحيى العلم و العلماء بذكر اقوالهم و طبع كتبهم و نشرها و لو لا احتمامه رحمه اللّه لم يكن اليوم منها عين و لا أثر، و بعد انتشار وروده بقم المقدسة جمع حوله للاستفادة من جنابه جمع كثير من العلماء و الفضلاء و صار مجلس درسه حينئذ مجلسا خطيرا ثمينا قيّما محل جولان الابطال يحضره كل من صار مرجعا للمسلمين بعد ارتحاله و بعد اجابة دعوة ربه المرجع الدينى الاعلى المغفور له آية اللّه العظمى السيّد

ابى الحسن الاصفهانى رحمه اللّه انتهت إليه الرئاسة العامة للمسلمين و نشر لواء الاسلام من الشرق الى الغرب و لاجل خلوص نيته هيأ اللّه له الفرصة و المناسبة لترويج الدين فجزاه اللّه خير الجزاء و حشره مع أجداده الطاهرين.

لا يخفى عليك أيّها القارى الكريم هذا الّذي بين يديك هو السفر العلمي الجليل من تقريرات دروسه القيّمة الّذي القاه رحمه اللّه فى محاضرات الثمينة في أحكام الصّلاة الّتي هي من أعظم مباحث الفقه من حيث كثرة الفروع و الانواع في مجمع

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 14

عظيم من جهة الكميّة و الكيفيّة الّذي جمع فيه رجال العلم و الدّين و ورد في البحث فيه مع النشاط العلمي و صعد فيها قللها الرفيعة و فتح أقفال فصورها العظيمة بعبارات كافية شافية وافية سهل التناول لكل من حضره مع كون مطالبها بديعة في فنها صعبة من حيث استنباطها من مصادرها.

و قد جمع رحمه اللّه بين المتناقضات فى مقام التدريس لانّها مع كونها مطالب مهمّة جديدة مشكلة من حيث البناء و المبنى و إقامة الدليل و الاشكال فيها و إلقائها بانواع مختلفة و بقوله رحمه اللّه (أنا في كل يوم رجل) لكن لاجل كونه رحمه اللّه ذي بيان بليغ و تسلّط قوى على ردّ الفروع على الاصول و ذكر المتشابهات و الشواهد المناسبة للموارد كل من حضر فى مجلس درسه يقدر على الاستفادة من جنابه و اقتفائه من هذه الشجرة الطيّبة المثمرة بقدر استعداده.

الّذي قرّره العلّامة آية اللّه العظمى الحاج آقا على الصّافي الكلبايكاني دامت بركاته من بحوثه الشريفة الّذي حضر مجلس درسه رحمه اللّه من أوّل وروده بقم و شروعه فى التدريس حضور تعمّق و تدبر و هو

رحمه اللّه يعتقد بجودة ذهنه و دقّة نظره و جولان فكره و لهذا يسمع كل ايراد منه و أجاب مع أنّ التّكلّم في مجلس درسه مشكل يحتاج الى الجسارة من جهة مهابته و تسلّطه على الاقوال من العامّة و الخاصّة و كتبهم و لم تكن مسئلة او فرع قابلة للبحث الّا و له كلام و ايراد عليهما و لو نظرت الى هامش الكتاب تصدّق ادعائنا و تعرف مآل الدّرس الى ميدان جولان العلم و الدّقة و النّظر و الايراد و خرج عن صرف التدريس الى المباحثة و لو أشكل شخص آخر قال رحمه اللّه «الكلام كل الكلام ما قاله الصافي» و ليس بعده شي ء قابلا للبحث.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 15

و لا يخفى عليك انّ الكتاب طبع فى ثمان مجلّدات و لم يكن على منوال لكتب الّتي صنفت في الصّلاة من حيث الترتيب و ذلك لانّه رحمه اللّه شرع أوّلا فى البحث عن صلاة الجمعة و ثانيا في الصّلاة المسافر ثمّ شرع فى البحث عن أصل الصّلاة و آخر بحثه فى الصّلاة البحث عن صلاة الجماعة.

و لم يرض المقرّر دام عزّه العالى التّخلّف عن سيرته الشريفة و أمر بطبعه كذلك و سمّاه به (تبيان الصّلاة) لانّ التبيان على ما في مجمع البحرين «1» معناه (جعل الشي ء مبنيّا مع الحجّة) و حيث كان بناء الكتاب على ذكر احكام الصّلاة مع الدليل و البرهان و تبين مسائلها و فروعها بالدّليل و البرهان سمّى به.

و لاجل بصيرة الناظر فى هذه الكتب الثمانية نذكر فهرسة ما يشتمل عليه كل مجلد من المطالب.

فمجلّد الاوّل: مشتمل على المقدّمة و البحث عن الصّلاة الجمعة و المسافر الى حكم قواطع السفر.

و المجلّد الثّاني:

مشتمل على البحث عن قواطع السفر الى آخر احكام صلاة المسافر من التخيير في أماكن الاربعة.

و المجلّد الثالث: فى المقدمة الاولى و الثانية و الثالثة و الرابعة للصّلاة، أعنى فى اعداد الفرائض و النوافل و المواقيت و القبلة و الستر و الساتر.

و المجلّد الرابع: في حكم لباس المصلّى و فى المقدمة الخامسة أعنى مكان المصلّى و فى المقدّمة السادسة أعنى الاذان و الاقامة.

______________________________

(1)- مجمع البحرين، ص 500.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 16

و المجلّد الخامس: في افعال الصّلاة من النيّة و القيام و تكبيرة الاحرام و القراءة.

و المجلّد السادس: في بقيّة افعال الصّلاة من الركوع و السجود و التشهّد و التّسليم و قواطعها.

و المجلّد السابع: فى الخلل و الشكوك و قضاء الصّلوات و متابعة المأموم للإمام.

و المجلّد الثامن: في صلاة الجماعة و صلاة الاحتياط و سجدة السّهو.

قبض عليه الرحمة فى يوم الخميس من شهر شوال المكرم سنة 1380 و دفن فى مدخل المسجد الاعظم الّذي بناها في جوار قبر كريمة أهل البيت فاطمة المعصومة بنت موسى بن جعفر عليهما السّلام و صارت مدينة قم يومئذ ضجة واحدة لفقده عاش سعيدا و مات سعيدا.

السيد محمد الصّمدى البهبهاني

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 17

كتاب الصّلاة

اشارة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 19

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين و اللعنة على اعدائهم من الآن الى يوم الدّين

و بعد فاعلم انّه لما فرغ سيدنا الأستاذ آية اللّه العظمى رحمه اللّه الّذي انتهت إليه الرئاسة الدينية الحاج آقا حسين البروجردي الطباطبائى مد ظله العالي على رءوس المسلمين من مباحث الوصايا و كتبت تقريراته مع ما خطر ببالي القاصر، شرع في المباحث

المتعلقة بالصلاة و تحقيق مهمات مسائلها في اليوم الثامن من شهر جمادى الثّانية من شهور سنة 1367 من الهجرة فاريد ان أكتب ما استفدت من افاداته الشريفة في حدود التمكن و الاستطاعة مع ما وصل إليه فكري القاصر إن شاء اللّه تعالى، فنقول و منه التوفيق و عليه التوكل و به استعين.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 21

كتاب الصّلاة لا اشكال في أن الصّلاة من اهم العبادات و اقدمها و لا شي ء بعد المعرفة افضل منها.

و الكلام في كون لفظها من الحقائق الشرعية أو باقية على معناها اللغوي قد تحقق في الاصول.

و قلنا: بأن ماهية الصّلاة ليست من الأمور الّتي اخترعت في شرع الاسلام بحيث لم يكن قبل دين الاسلام منها عين و لا أثر.

بل قلنا: بأن الصّلاة هي عبارة عن عبادة مخصوصة، و خضوع خاص، و توجه مخصوص الى الرب، و غاية خشوع العبد لمولاه و كانت قبل الإسلام ثابتة في ساير الشرائع كما ينادى بذلك الكتاب الكريم مثل قوله تعالى نقلا عن المسيح على نبينا و آله و عليه السّلام وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا «1» و يكون عند الاعراب أيضا عبادة خاصة مسماة بالصّلاة و لو لم تكن عبادة حقيقة، و لذا

______________________________

(1)- سورة المريم، الآية 31.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 22

قال اللّه تعالى وَ مٰا كٰانَ صَلٰاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّٰا مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً «1» فصلواتهم و ان كانت باللهو اشبه، و ما كان فيها روح العبادة و لكن المقصود ان عندهم شيئا متداولا باسم العبادة مسمّاة بالصّلاة.

[الصّلاة بعنوان كونها عباده ليست مخترعة فى الاسلام]

فالصّلاة بعنوان كونها عبادة مخصوصة ليست من الأمور المخترعة في الاسلام، بل كانت قبل الاسلام، غاية الأمر صورتها قد اختلفت بحسب الشرائع

و شرع الاسلام أيضا تصرّف في خصوصياتها، لا أن الاسلام جاء بما لم يكن في الشرائع السالفة، ففرق الصّلاة الّتي أمر في الاسلام بادائها مع الصّلاة الّتي كانت في الامم السالفة ليست الا باعتبار الخصوصيات، فعلى هذا من اوّل الاسلام كانت الصلاة عبارة عن العبادة المخصوصة و تصرف الشرع فيها من قبيل التخطئة في المصداق.

[في حمل الاطلاقات على ما هو مراد الشارع]

و ما قلنا من كون الصّلاة عبادة خاصة غير مخصوصة بشرعنا لا يصير سببا لانّ يقال: بأنّه على هذا لو شككنا في اعتبار شي ء في الصّلاة و عدم اعتباره يصح التمسك بالإطلاقات الواردة بلفظ الصّلاة في الباب، و الالتزام بعدم دخل ما شك في اعتباره و دخله فيها، و الحكم بأن المسلم هو ما اعتبر في الصّلاة قبل الشرع و ما صار دخله فيها من ناحية الشارع مسلما لعدم الاجمال على ما بينت في مفهوم لفظ الصلاة، لأنه لو كان نظر الشارع الى اعتبار أمر آخر في الصّلاة وجودا او عدما كان اللازم عليه البيان بمقتضى الحكمة، و حيث لم يبين ذلك فنكشف كون المعتبر عنده ما هو المعتبر في ساير الشرائع.

______________________________

(1)- سورة الانفال، الآية 35.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 23

لانّا نقول: بأنّه بعد ما بين الشارع قولا و عملا ما هو المعتبر في الصلاة، و ما هو دخيل فيها وجودا او عدما، حتى نقل من طرق العامة قريب من هذه المضامين «إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء المسجد فصعد المنبر و صلّى و قال: صلوا كما رايتموني اصلي» فبين ما هي الصّلاة عنده، فكل ما ورد في القرآن و في لسانه و لسان الائمة صلوات اللّه عليه و عليهم من الاطلاقات الواردة في الصّلاة منزلة

على ما هو مراده و بيّنه للناس، فلا يمكن حمل الاطلاقات إلّا على ذلك لا على ما هي الصّلاة عند ساير الشرائع، فافهم.

ثمّ انّه بعد ما عرفت من كون الصّلاة حقيقة في عبادة مخصوصة، و ليست اخترعها الشارع، بل كانت قبل شرعنا أيضا لا ثمرة في تطويل الكلام في ما هو معناها في اللغة.

كما لا ثمرة في التكلم في أن الصّلاة المصطلحة مأخوذة من اى معنى من معانيها اللغوية، و هل هي مأخوذة من مادة (صلو) أو من مادة (صلى) أو انّها في اللغة كانت بمعنى الدعاء، و الصلاة المصطلحة مأخوذة منها، كما لا يبعد كونها مأخوذة من الصلاة بمعنى الدعاء.

إذا عرفت ذلك فلنشرع في ما هو المهم في المقام و نقول: إن الكلام في باب الصلاة و العلم باحكامها يستدعى بيان اركان.

الركن الاول: في بيان الأمور الّتي ينبغي التكلم فيها قبل التكلم في أصل ماهية الصّلاة و الاحكام المتعلقة بها و هي امور:

الأمر الاول: في اعداد الصلاة: و هي إمّا فرض و إمّا نفل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 24

[في ذكر الصلوات المفروضة]

و الفرض منها تسعة على ما قاله العلّامة رحمه اللّه في القواعد و بعض آخر.

أوّلها: الصلوات اليومية.

ثانيها: صلاة الجمعة.

ثالثها: صلاة العيدين.

رابعها: صلاة الكسوفين.

خامسها: صلاة الزلزلة.

سادسها: صلاة الآيات.

سابعها: صلاة الطواف.

ثامنها: صلاة الاموات.

تاسعها: ما يلتزمه الانسان بنذر و شبهه.

و بعضهم عدوها سبعة بعدم عد صلاة الاموات من الصلوات و ان كان عدها من اقسام الصّلاة ممكننا بناء على ما قلنا من كون الصّلاة عبادة مخصوصة و حضورا خاصا عند المعبود، لأنّ صلاة الميت أيضا مثل ساير الصلوات و ان لم يكن لها ركوع و لا سجود، لانها أيضا حضور خاص عند المعبود و توجه العبد الى مولاه

و عبادة مخصوصة

و جعل الجمعة مندرجة في اليومية لكونها واحدة منها.

أو خمسة بجعل صلاة الزلزلة و الكسوفين و الآيات كلها واحده و هي الآيات.

أو أربعة بجعل ما وجب بالنذر و شبهه خارجا عن التقسيم، لأنّ هذا التقسيم

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 25

يكون باعتبار ما فرض على الناس بالاصالة لا ما يصير واجبا بالعرض مثل ما وجب على الشخص بالنذر و شبهه.

ثمّ إن وجوب الصلوات اليومية من الضروريات في الاسلام بحيث لا يرتاب في ذلك كل من دخل في ربقة الاسلام.

و مسلم أيضا بأنها عبارة عن الصلوات الخمس المتعلقة بكل يوم و ليلة، و هي أربع ركعات للظهر، و أربع للعصر، و ثلاث للمغرب، و أربع للعشاء، و ركعتان للصبح و ليست زائدة منها عند الخاصّة و العامة، و لم يحك مخالف في ذلك لا عندنا و لا عند العامة إلّا ما نسب الى ابي الحنيفة، فانّه قال بوجوب صلاة الوتر و هي ثلاث ركعات بادخاله الشفع فيها، و لا يعتنى بكلامه و مخالفته لوضوح بطلان كلامه.

و أمّا وجوب صلاة الاموات أيضا من الضروريات و لا خلاف في ذلك بين الخاصة و العامة في مورده و هو ما كان الميت مسلما.

و أمّا صلاة الآيات فوجوبها من متفردات الامامية و لم ينقل وجوبها من العامة، فهم متفقون في عدم وجوبها و ان اختلفوا في استحبابها فبعضهم قالوا باستحباب خصوص صلاة الكسوف. و بعضهم باستحبابه مع استحباب صلاة الخوف. و بعضهم بزيادة استحباب صلاة الزلزلة و لم يقل أحد منهم باستحباب الصلاة لآيات أخر كالريح السوداء و غيره.

و أمّا صلاة العيدين فالامامية متفقون على وجوبهما مع حصول شرط وجوب صلاة الجمعة، و انه إذا ذهب امام

واجب الطاعة أو من نصبه الامام لذلك الى الصحراء، وجب على كل من وجب عليه صلاة الجمعة السعى و المشي الى صلاة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 26

العيد بالوجوب العينى لا بالوجوب الكفائى.

[في نقل اقوال العامّة فى الواجب و الاستحباب]

و أمّا العامة فاختلفوا في ذلك.

فبعضهم و هو ابو حنيفة فكان قائلا بمقالتنا و انه وجب السعي عينا على كل أحد ممّن اجتمعت فيه شرائط الوجوب.

و بعضهم قائل بوجوبها بالوجوب الكفائى بمعنى انّه بعد حضور الامام لا قامتها، يجب على الواجدين لشرط الوجوب الحضور للصلاة وجوبا كفائيا بالمقدار الّذي يحفظ حشمة الامام، فبعد حضور هذا المقدار لا يجب على غيرهم.

و بعضهم قالوا باستحباب الحضور للصلاة و عدم وجوب ذلك أصلا لا بالواجب العينى و لا الكفائي.

و أمّا صلاة الجمعة فوقع الكلام في أنها هل تكون صلاة مستقلة، أو تكون من الصلوات اليومية، فبعض قال بكونها من جملة الصلوات اليومية و عدم كونها صلاة مستقلة، و إنّ في يوم الجمعة يكون الواجب ركعتين و في غير الجمعة أربع ركعات، فصلاة الجمعة ظهر مقصور، و قال بعض آخر: بكونها صلاة مستقلة غير مندرجة في الصلوات اليومية، و لكن بعد اتيان صلاة الجمعة في يوم الجمعة لا يجب الاتيان بصلاة الظهر.

[في وجوب صلاة الجمعة فى الجملة من المسلّمات]

و امّا الكلام في وجوب صلاة الجمعة فنقول: إن وجوبها في الجملة من المسلمات و لكن الكلام في جهة اخرى.

و هي انّها واجبة مطلقا بلا اشتراط وجوبها بحضور الامام عليه السّلام أو من نصبه لذلك، أو أن وجوبها مشروط بذلك، و حيث إن هذه الجهة من المطالب المهمة في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 27

الفقه و من المواقع الّتي فيها الخلاف، فنتعرض لمسألة صلاة الجمعة بنحو رسالة مستقلة إن شاء اللّه تعالى و الحمد للّه أولا و آخرا و صلى اللّه على نبينا محمد و آله و سلّم و اللعنة على اعداء اللّه و اعدائهم.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 29

فصل في صلاة الجمعة

اشارة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 31

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه و الصلاة و السلام على رسول اللّه و على آله آل اللّه و اللعن على اعدائهم من الآن الى يوم لقاء اللّه.

أما بعد فهذه رسالة في صلاة الجمعة مشتملة على تقريرات سيدنا الأستاد آية اللّه العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائى البروجردي مد ظله و جملة من افاداته الشريفة مع بعض ما خطر ببالي القاصر و نظري الفاتر، و نشرع في الكلام بعون اللّه تعالى.

[في بيان كيفيّة وجوب صلاة الجمعة]

فنقول: ان وجوب صلاة الجمعة في الجملة من المسلمات و لا ينبغى الاشكال في هذه الجهة، و انما الكلام في كيفية وجوبها و الجهة المهمة في هذه المسألة تكون هذه الجهة، و قد وقع الخلاف بين الفقهاء رضوان اللّه عليهم فيها.

فهم مع اتفاقهم على وجوب حضور صلاة الجمعة إن اقامها الامام عليه السّلام أو من نصبه لذلك، اختلفوا في وجوب صلاة الجمعة و عدم وجوبها بل و حرمتها مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك مثل زماننا هذا على اقوال، و حيث إن فهم ما هو مذهب الحق في المقام موقوف على ما يستفاد من الآيات و الأخبار الواردة في باب

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 32

صلاة الجمعة و مقدار دلالتها، فلا بدّ من التعرض لهما و ذكر الكلام فيهما.

[في ذكر الآيات، فالعمدة الآيات 9 و 10 و 11 من سورة الجمعة]

أما الآيات: فالعمدة فيها قوله تعالى إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1»

فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلٰاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّٰهِ وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2»

وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ وَ اللّٰهُ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ «3».

و استدلّ بها لوجوب صلاة الجمعة مطلقا حتى مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك، و انها واجبة بالوجوب التعيينى بلا دخالة هذا الشرط.

فنقول مقدمة لدفع هذا التوهّم بأنّ اوّل صلاة جمعة اقامها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي الصلاة الّتي اقامها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في «بطن وادي لبنى سالم بن عوف» و هو محل بين مسجد قباء و

المدينة، فانّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ما هاجر من مكّة و نزل قرب المدينة توقف أياما في المحل الّذي يكون فعلا مسجد القباء، ثمّ خرج و توجه نحو المدينة فلما بلغ «بطن وادي لبني سالم بن عوف» كان وقت الظهر من يوم الجمعة، فرسم خطّا بيده الشريفة لأن يصير مسجدا، و صلّى صلاة الجمعة في هذه المحل، و هذه الصّلاة كانت اوّل صلاة اتى بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو اقام صلاة الجمعة قبل دخوله بالمدينة في المحل المذكور، و لما بلغ الى المدينة و توقف فيها أقام في كل جمعة صلاة الجمعة أيضا.

______________________________

(1)- سورة الجمعة، الآية 9.

(2)- سورة الجمعة، الآية 10.

(3)- سورة الجمعة، الآية 11.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 33

و لا اشكال في أن احدى سور المدنيّة سورة الجمعة نزلت الآيات المتقدمة أيضا في المدينة، لانها من جملة آيات سورة الجمعة، فالآيات الشريفة نزلت في المدينة بعد انعقاد صلاة الجمعة مدة كما بينا.

[في بيان شأن نزول آية (و اذا رأوا تجارة)]

اشارة

و كان شان نزول قوله تعالى (و اذا رأوا تجارة الخ) هو أن بعد ما نزل النبي بالمدينة، و انعقدت الجمعة من ناحيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في يوم الجمعة وقت الظهر مشتغلا بخطبة صلاة الجمعة، أو مشتغلا باصل الصّلاة- على اختلاف التفاسير- فورد دحية الكلبي- و كان ذلك قبل اسلامه- بالمدينة و هو أحد تجار المدينة و جاء بمال التجارة و اخبر الناس بوروده بضرب الطبل و الطنبور كما هو رسمه لاعلام الناس بوروده ليسارعون إليه للاشتراء، فالحاضرون في المسجد لما سمعوا صوت الطبل تركوا النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم و انفضوا إليه إما لاشتراء مال التجارة، أو لاستماع صوت اللهو، و لم يبق في المسجد عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا عدة قليلة، فانزل اللّه تعالى الآية الثالثة المتقدمة و هي قوله تعالى «و اذا رأوا الخ» توبيخا لهم.

فظهر لك من هذه المقدمة أن قوله تعالى (إذا نودي) الى آخر الآيات نزل بعد تشريع صلاة الجمعة، و بعد انعقاد الجمعة في المدينة من ناحية النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكون الآيات مدنية.

اذا عرفت ذلك فنقول: تارة يتوهم دلالة الآية على وجوب تشكيل صلاة الجمعة، و انعقادها، و تحصيل شرائطها من العدد و غيره حتى مع عدم حضور الامام بتوهم دلالة الآية على وجوب السعي لانعقاد صلاة الجمعة و وجوب تشكيلها.

و تارة يتوهم أن الآية و لو لم تدلّ على ذلك، و لكن تدلّ على انّه لو انعقدت الجمعة و اجتمعت الشرائط من العدد و غيره، يجب الحضور، فلو لم يجب الانعقاد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 34

و تهيئة الشرائط و تحصيلها فلا محالة يجب الحضور بعد الانعقاد اقلا و لم يعتبر أن يكون انعقادها بيد الامام عليه السّلام أو من نصبه لذلك، فلا بدّ من البحث في هذين الجهتين:

[عدم دلالة الآية على وجوب اجتماع الناس لانعقاد صلاة الجمعة]

أمّا الجهة الاولى: فنقول: انّه لا دلالة للآية الشريفة على وجوب اجتماع الناس من الخمسة أو السبعة و ازيد لانعقاد صلاة الجمعة، بمعنى انّه لا يجب الحضور مقدمة حتى تنعقد الجمعة، فلا يجب على الناس تشكيل صلاة الجمعة لا بالوجوب العيني و لا بالوجوب الكفائي، لأنّ المستفاد من الآية هو وجوب السعي و الحضور لصلاة الجمعة بعد البناء و الاعلام بانعقاد الصّلاة، لا انّه يجب

على الناس أصل انعقاد الصلاة و تشكيلها حتى يجب عليهم الاجتماع في أول ظهر الجمعة و تهيئة العدد يمكن انعقاد صلاة الجمعة معه، بل الآية تدلّ على أن صلاة الجمعة الّتي صارت قائمة و نادى المنادى اعني: المؤذن، و اعلن و اخبر بانعقادها، و يقول (حي على الصلاة) يجب على الناس السعي إليها، و لا يناد المنادي الا بعد حصول مقدمات انعقاد الصلاة و هو ينادى لأنّ يحضر الناس حتى يصلّون بالامام.

فالآية متعرضة لوجوب السعي الى الصّلاة المتهيئة الجامعة للشرائط، لا في مقام بيان وجوب الحضور لتحصيل شرائط الصّلاة من تحصيل الامام و العدد.

و الشاهد على ذلك مع قطع النظر عن نفس سياق الآية و انها دالة على وجوب السعى الى الصلاة، مامّر من أن الآية الشريفة نزلت بعد تشريع صلاة الجمعة، و بعد انعقادها من قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالآية تكون في مقام بيان وجوب السعي و الحضور للصلاة الّتي شرّعت قبلا، و كانت واجبة قبل نزول الآية.

و الحاصل انّه لا يستفاد منها وجوب اقامة صلاة الجمعة و وجوب تحصيل مقدمات انعقاد هذه الصّلاة على الناس و تشكيلها، بل يستفاد منها لزوم

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 35

الحضور عند انعقادها و تشكيلها، و أنه إذا انعقدت و أقيمت يجب على الناس الحضور، فليست الآية في مقام وجوب ما توهم أصلا حتى في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل غاية ما يستفاد منها وجوب الحضور عند الصّلاة الّتي أقامها رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[في ان هل تدلّ الآية على وجوب السعي إليها]

و أمّا الجهة الثانية: فهو أن يقال: و لو لم تفد الآية وجوب تشكيل صلاة الجمعة و تحصيل

مقدمات انعقادها، و لكن تدلّ الآية على وجوب السعي بعد النداء، و بعبارة اخرى لو لم يكن وجوب صلاة الجمعة مطلقا بحيث كان تحصيل مقدماتها الوجودية واجبة، بل كان وجوبها مشروطا، فلا أقل من أن يقال: اذا حصل الشرط يكون الحضور واجبا يعنى إذا حصلت المقدمات قهرا من وجود العدد و الامام المتمكن من اداء الخطبة و غير ذلك، وجب على كل من يسمع نداء صلاة الجمعة مع كونه واجدا للشرائط، السعي إليها و الدخول في الصّلاة.

فعلى هذا نستفيد من الآية انّه إذا نودي للصلاة يجب الحضور سواء كان اقامها النبي و الامام أو من نصبه لذلك أو غيرهم، بل يجب الحضور لو كان مثل زماننا هذا يعني زمان الغيبة المفروض عدم حضور الامام و عدم وجود من نصبه بالخصوص لذلك.

اذ المفروض بمقتضى ظاهر الآية وجوب السعي الى الصّلاة بعد النداء بدون اشتراط كون النداء من قبل الامام أو من نصبه لذلك بالخصوص.

و لو قيل باشتراط كون النداء هو النداء الّذي كان من قبل النبي أو الامام صلوات اللّه عليهما أو من نصبه لذلك.

فيدفعه الاطلاق، لأنّ الآية ظاهرها مطلق و لم يقيد الوجوب على ما هو ظاهر الآية بهذا القيد، فلو شككنا في دخل هذا القيد في وجوب السعي نتمسك

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 36

بإطلاق الأمر بالسعي بمجرد النداء، و نحكم بعدم اعتبار ذلك في الوجوب، لأنه لو كان هذا القيد معتبرا في الوجوب كان اللازم على الحكيم بيانه، فمن عدم البيان نحكم بعدم الاعتبار.

[في ان بعد وجود العهد فى الكلام لا يمكن التمسك بالإطلاق]

هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجهة الثانية و لكن ما يقتضيه التحقيق هو عدم دلالة الآية الشريفة على ذلك أيضا، لأنه بعد ما ثبت في الاصول ان

(الألف و اللام) للجنس حيث لا عهد، فاذا كان العهد في البين فلا يحمل على الجنس، و كان حملها على الجنس مع عدم العهد في البين ببركة مقدمات الحكمة، فاذا كان عهد في البين فلا مجال لجريان مقدمات الحكمة و لا يمكن الحمل على الجنس، و هذا أمر أوضحناه في محله.

و بعد ما تحقّق ذلك نقول: انّه كما بينّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة الجمعة قبل وروده بالمدينة في «بطن وادي لبنى سالم بن عوف» و كان اوّل صلاة جمعة صلاها هذه الصلاة، ثمّ بعد ما دخل في المدينة و أقام الجمعة في ايامها، نزلت الآية المتقدمة في المدينة، فكانت صلاة الجمعة معهودة عند الناس خارجا، و هي صلاة جمعة اقامها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ جمعة، و ليس ما كان معهودا عندهم من صلاة الجمعة إلّا ما اقامها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لانها المعهودة عندهم، فاذا قيل (اسعوا الى صلاة الجمعة) فلا يأتى بالنظر إلا انّه دعى الى هذه الصّلاة الّتي منعقدة في الخارج.

فقوله تعالى (و إذا نودي) لو لم يدلّ مع هذه المعهودية في الخارج على الأمر بوجوب السعي و الحضور بخصوص صلاة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم نقل بقرينة العهد ظهور الآية في ذلك. فلا مجال لأنّ يقال بدلالة الآية على وجوب السعي الى كل صلاة الجمعة.

و لا مجال لهذا التمسك بالإطلاق أو العموم بأن يقال: إن ظاهر الآية دال على

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 37

وجوب السعي إذا نودى للصّلاة، بلا اشتراط كون النداء من قبل النّبي أو الامام صلوات

اللّه عليهما.

لانّنا قلنا من عدم امكان حمل (الألف و اللام) على الجنس مع كون العهد في البين و المقام من هذا القبيل، لأنه بعد كون صلاة الجمعة الواقعة خارجا هي التي أقامها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان المعهود عند الناس من صلاة الجمعة هو هذه الصلاة، فلا بدّ من حمل (الألف و اللام) على العهد لا على الجنس، فلا دلالة للآية على وجوب الحضور و السعي الى كل صلاة جمعة حتى يتم الاستدلال، فظهر لك ممّا مرّ عدم امكان الاستدلال بالآية لكلتا الجهتين المتقدمتين.

بل على ما قلنا يمكن أن يقال: بعدم دلالة الآية على وجوب الحضور لصلاة الجمعة المتشكلة من قبل امام الأصل، و ان كان الحضور واجبا مسلما بدليل آخر، لانّه مع كون (الألف و اللام) في الصّلاة الواردة في الآية للعهد، و كان المعهود صلاة جمعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالآية لا تدلّ إلّا على وجوب الحضور عند هذه المعهودة فقط لا الى غيرها. «1»

هذا تمام الكلام في الآية الشريفة و بيان عدم دلالتها على الوجوب العيني مطلقا، يعني لا دلالة لها على الوجوب في غير الصّلاة الّتي أقامها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[في ان اقامة صلاة الجمعة بيد السلطان حقا او باطلا]

و أمّا الكلام في الأخبار الواردة في صلاة الجمعة فلنقدم مقدمة، ثمّ نشرع في

______________________________

(1)- (اقول: هذا كله مع الاغماض عما ورد في بعض التفاسير من كون المراد بالذكر هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لانه على هذا تدلّ الآية على وجوب الحضور عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلا دلالة لها على وجوب الحضور في غير صلاة النبي،

لأنه على هذا يجب الحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للصّلاة. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 38

ذكر الأخبار و مقدار دلالتها و الكلام فيها.

أمّا المقدمة و هي انّه كما قلنا اوّل صلاة جمعة اقامها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في «بطن وادي لبني سالم بن عوف» و بعد ذلك أقامها في المدينة الى آخر أيّام حياته، و بعد وفاته اقامها الخلفاء الغاصبين الى زمان نهضة المسلمين على عثمان و محاصرتهم إياه في بيته، و بعد ما صار محصورا اجتمع الناس على علي عليه السّلام فأقامها علي عليه السّلام و من هذا نشأ الاختلاف بين العامة.

فبعضهم التزموا بعدم اشتراط السلطان تمسكا بأن عليا عليه السّلام لم يكن سلطانا بل عثمان كان سلطانا و مع ذلك اقام علي عليه السّلام صلاة الجمعة، و بعضهم التزموا باعتبار السلطان و قالوا بأن عليا عليه السّلام هو السلطان لاجتماع الناس عليه، و عزلهم عثمان عن الخلافة.

و أمّا نحن معاشر الشيعة نقول: بأن عليا عليه السّلام هو خليفة رسول اللّه و الامام المفترض الطاعة حقا من اوّل الامر، فاقام صلاة الجمعة في هذا الحال، لأنّ ذلك حقه، و لم يكن مانع من قيامه بما هو حقه و لم يقمها قبل ذلك، و جلس في بيته حتى لا يقع الاختلاف، و يثلم في الاسلام الثلمة لاجل الاختلاف.

و على كل حال كان الغرض أن صلاة الجمعة تكون في الخارج بنحو ما قلنا من انّه كان في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي انعقدها بنفسه الشريفة، و بعده الخلفاء الثلاثة و بعدهم امير المؤمنين عليه السّلام، و بعده كل

من اشغل مقام السلطنة و الخلافة الاسلامية، فاقام هذه الصّلاة كل من بيده زمام أمور المسلمين حقا كرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علي عليه السّلام أو غصبا كالخلفاء الغاصبين كما ترى أن المرسوم كان هذا النحو، حتى في هذه الاواخر يعني الى زمان خلافة الخلفاء العثمانيين حتى زمان عبد الحميد، و كذلك

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 39

في زماننا في بعض الممالك الاسلامية كمصر و الحجاز و اليمن الّذي تنعقد فيه صلاة الجمعة يكون الأمر بهذه الطريقة، فإما أن يقيمها السلطان أو المنصوب من قبله لذلك فتحصّل لك من بيان هذه المقدمة أن ما نرى خارجا من وضع انعقاد صلاة الجمعة ليس إلّا بهذه الكيفية.

و كذلك الأمر كان عند سلاطين الشيعة، فإنه لما أسّس في ايران دولة الشيعة و عمدة اساس ذلك كان في عهد الصفوية، فكان أمر صلاة الجمعة كذلك، يعنى كان من الأمور الّتي أمرها بيد السلطان، و لذا كان تعيين امام الجمعة من قبل السلطان حتى في زمان القاجارية، فما نشاهد في الخارج من صلاة الجمعة ليس الا هذا، و ليس أمرها بحيث يكون بيد كلّ أحد من المسلمين كما نشاهده اخيرا في بعض الامصار و القرى.

فعلى هذا نستكشف من كل ذلك أن أمر صلاة الجمعة في الخارج كان بيد السلطان او من يحوّل الأمر من قبله إليه، و أن صلاة الجمعة كانت مشهدا عاما، و لها محلا مخصوصا يسمى عند العامة بالجامع، و عند العجم مسجد الجمعة، و هو محل يصلى فيه هذه الصّلاة، و يكون مشهدا عظيما يتوجهون الناس مع كثرتهم نحو هذا المحل، لأنه لا تقيم إلا في محل سكونة السلطان أو في كل

مصر يكون شخص من قبله موظفا باقامتها، و لا بدّ للناس من الاجتماع من الاطراف من الفرسخ أو الفرسخين في هذا المحل، و لذا ترى ان كل محل يكون مصرا أو بلدا يكون فيه مسجد جامع، و هذا من الشواهد على كون محل صلاة الجمعة محلا مخصوصا و مشهدا عاما معلوما، فظهر لك ان أمرها خارجا كان بيد السلطان أو المنصوب لذلك من قبله.

[في ذكر بعض الاخبار المتمسكة بها لوجوبها العينى]

اذا عرفت هذا نتكلم في أخبار الباب، و ما يستفاد منها مع كون هذه المقدمة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 40

على ذكر منا و منك، فنقول بعونه تعالى: ان ما استدل به من الأخبار على الوجوب العينى فيها مطلقا حتى مع عدم حضور الامام و ان كان كثيرا، و لكن من الواضح عدم ربط بعضها بالمقصود، فنحن نتعرض لبعض ما يحتمل دلالته، أو ما توهم دلالته على الوجوب فنقول:

الرواية الأولى: ما رواها زرارة بن اعين عن ابي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «انما فرض اللّه عزّ و جلّ على الناس من الجمعة الى الجمعة خمسا و ثلثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّه عزّ و جلّ في جماعة و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة، عن الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة و المريض و الاعمى و من كان على رأس فرسخين». «1»

و هذه الرواية متحدة الدلالة مع الرواية 2 و الرواية 14 من الباب المذكور، فلا حاجة الى التعرض لهما مستقلا و ان كان الاختلاف بينهما في بعض العبارات و المضامين.

أمّا وجه الاستدلال بها: فقيل بأن الرواية تدلّ على أن صلاة الجمعة من الفرائض الواجبة على الناس إلا على جماعة الّتي وضع اللّه عنهم بمقتضى

الرواية، فيجب انعقادها على جميع المسلمين إلا ما استثني منهم.

و فيه أن الرواية تدلّ على أن صلاة الجمعة من جملة الصلوات افترضها اللّه تعالى على الناس، فان كنا نحن و صدر الرواية فقط- بدون ما ذكر فيها من الطوائف الموضوعة عنهم- فلم يكن مجال لهذا التوهّم أصلا، لعدم كون الرواية الا في مقام بيان

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 41

أصل ما فرضه اللّه تعالى، و لم تكن في مقام بيان كيفية ما فرضه اللّه، و ما هو شرط في وجوبها، و الخصوصيات المعتبرة في هذه الصلوات المفترضة من كل جمعة الى جمعة.

و أمّا الكلام فيها مع ذيلها:

فان قيل: بأن الاستثناء شاهد على انّها واجبة على غيرهم، و انّ صلاة الجمعة موضوعة عنهم فقط، و واجب على غيرهم، فالرواية تكون في مقام بيان من وجبت عليه صلاة الجمعة و من وضع عنه هذه الصّلاة، و لم يعتبر قيدا زائدا في وجوبها على من وجب عليه من الناس، فنحكم بالإطلاق بعدم اعتبار شرطية حضور الامام الأصل.

نقول: لا شك في أن من الطوائف المستثناة ممّن وجبت الجمعة عليه، هو من كان على رأس فرسخين، و معنى الاستثناء هو عدم الوجوب على من كان على رأس فرسخين، يعنى: من كان بعده من موضع تقام فيه الجمعة بفرسخين لا يجب عليه حضور الجمعة، فيستكشف من ذلك ان فرض المعصوم عليه السّلام هو صلاة الجمعة المخصوصة المعهودة الّتي لها محل معيّن، و ان ممّن لا يجب عليه الحضور هو من كان بعيدا بفرسخين من الصّلاة المعهودة خارجا، و إلّا لو لم يكن النظر الى الجمعة المفروض الوجود المتداولة المقررة، فما معنى استثناء من كان

على رأس فرسخين، لأنّ الاستثناء يكون ممّن وجبت عليهم هذه الصّلاة، فوجبت على الناس إلا عليهم.

فلو فرض عدم كون نظر المعصوم عليه السّلام الى الجمعة المفروض وجودها على وضع معين و في مكان معين المعهود انعقادها في هذا المكان، فكيف يستثني من المكلفين بالوجوب كل من كان على رأس فرسخين، لأنّه على هذا لا صلاة في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 42

الخارج و في محل خاص حتى يكون بعض من الناس بعيدا منها بفرسخين.

فنفهم أن المراد الصّلاة المعهودة حتى يصح أن يستثنى منها كل من كان بعيدا منها بفرسخين، فالرواية لا تدلّ على وجوب الحضور عند كل صلاة جمعة، بل على وجوب الحضور على من وجب عليه الحضور الى الجمعة المعهودة المفروض وجودها في الخارج، و هذه الصّلاة هي الصّلاة الّتي لا يقيمها إلّا من بيده زمام أمر المسلمين، فأفهم. «1»

الرواية الثانية: و هي رواية عمر بن يزيد عن ابي عبد اللّه عليه السّلام (قال: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة، و ليلبس البرد و العمامة، و يتوكأ على قوس أو عصا، و ليقعد قعدة بين الخطبتين، و يجهر بالقراءة، و يقنت في الركعة الاولى منها قبل الركوع). «2»

و نقل صاحب الوسائل هذه الرواية أيضا «3»، و لا يبعد كونهما رواية واحدة و ان كان نقلها مرّتين.

و توهّم أن هذه الرواية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة إذا كانوا سبعة بدون الاشتراط بامر آخر من حضور الامام و نحوه.

______________________________

(1)- (أقول: على أن غاية الدلالة انّه لا يجب على المريض و غيره أصلا حتى مع وجود الامام و انعقاده لها، و أنها تجب على غيرهم و امّا مع الإمام أو مطلقا فلا إذ ليس في

مقام بيان ذلك، بل في مقام الفرق بين الاشخاص من الوجوب و تشريعه في حق بعضهم و عدم تشريع الوجوب في حق بعضهم. (المقرّر).

(2)- الرواية 5 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

(3)- الرواية 2 من الباب 24 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 43

و لكن غاية ما يستفاد منها- بعد حمل لفظ «الجماعة» الواردة في الرواية على الجمعة بقرينة ذيلها من لبس البرد و العمامة و أن يقعد قعدة بين الخطبتين، و الجهر بالقراءة- بأن المراد من قوله (فليصلوا في جماعة) هو الأمر بأن يصلوا صلاة الجمعة، و هذا المقدار لا ينفع للمتوهم، لعدم معلومية ما هو صدر الرواية، و عدم معلومية ما هو مرجع في قوله (إذا كانوا) لعدم معلومية اى أشخاص إذا كانوا.

فلا يستفاد من الرواية إلا انّه إذا كانوا سبعة نفر فليصلوا في جماعة، و امّا أن المراد أى أشخاص، و التكليف متوجه الى اى طائفة من الناس، فلا يفهم منها، فلا دلالة للرواية بانّها واجبة على كل احد، أو واجبة علي اشخاص مخصوصة، مثل من كان منهم في زمن حضور الامام عليه السّلام فالرواية من هذه الجهة مجملة، فلا يمكن الاستشهاد بها لمّا توهّمه المتوهّم.

الرواية الثالثة: ما رواها زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام «قال صلاة الجمعة فريضة، و الاجتماع إليها فريضة مع الامام، فان ترك رجل من غير علّة ثلث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، و لا يدع ثلاث فرائض من غير علّة الا منافق» «1».

و ترى بهذا المضمون الرواية 8 من هذا الباب و لعلهما تكونان رواية واحدة و هذه الرواية أيضا لا تدلّ على وجوب صلاة الجمعة بالوجوب العينى مطلقا

أمّا

أولا فلان الجمعة الّتي هي فريضة كما صرح بها في هذه الرواية بأن «صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الامام» هي الجمعة الّتي خارجيتها كانت بنحو الّذي قلنا، و لا اقل من احتمال كون المراد هو صلاة الجمعة المعهودة،

______________________________

(1)- الرواية 12 من الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 44

فلا ظهور للرواية في كون صلاة الجمعة مطلقا واجبة.

و ثانيا قال المعصوم عليه السّلام على ما في هذه الرواية «و الاجتماع إليها فريضة مع الامام» و الاشتراط بالامام أيضا شاهد على عدم دلالة الرواية على المطلوب، لأنّ المراد ان لم يكن من قوله «فريضة مع الامام» و ان الاجتماع مع الامام فريضة، هو امام الأصل بقرينة عدم انعقادها إلا مع من بيده زمام أمور المسلمين و هو الامام، فلا اقل من كونه محتمل الوجهين، فقابل لأنّ يكون المراد من الرواية وجوب الاجتماع في خصوص الجمعة الّتي أقامها امام الأصل، و قابل لأنّ يكون المراد منها وجوب الاجتماع مع كل من يقيمها و ان لم يكن امام الأصل بناء اعلى كون المراد من الامام في الرواية هو مطلق من يصير إماما، فمع كون الاحتمالين في الرواية فلا وجه لحمل الرواية على الاحتمال الثاني، بل غاية الأمر أن الرواية تكون مجملة.

[لا ظهور للروايات فى الوجوب مطلقا اصل وجوب صلاة الجمعة]

و نظير هذه الرواية الروايات 10 و 13 و 14 و 15 و 18 و 19 في عدم الدلالة، لأنّ كل هذه الروايات، أولا تكون واردة لبيان أصل وجوب صلاة الجمعة، و التحذير في بعضها على تركها، و ثانيا بعد كون وضع صلاة الجمعة خارجا كما قلنا هو انعقادها من ناحية من بيده زمام أمور المسلمين، فالامر بصلوة الجمعة و

التحذير من تركها راجع الى الجمعة المعهودة الواقعة خارجا، فلا دلالة لها على الوجوب مطلقا حتى يستدل بها.

و مثل هذه الطائفة النبويات الّتي نقلت من المعتبر و من رسالة الشهيد الثاني في الجمعة الّتي نقلها في الوسائل في الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة و هي الرواية 10 الى 27، و هذه الأخبار من النبويات الواردة في طرق العامة، و مع قطع النظر عن ذلك لا دلالة لها على المقصود، لأنه مع كون العهد في البين لما فهمت من خارجية

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 45

وقوع صلاة الجمعة من زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى هذه الاواخر، فالامر بالجمعة و الترغيب إليها و التحذير على تركها منزل على المعهود و الخارج، لأنّ الألف و اللام في «الجمعة» لا بد من أن يحمل على العهد لا على الجنس، أولا يمكن حمله على الجنس اقلا.

و الاولى بعدم الدلالة على الوجوب العينى الروايات 3 و 4 و 8 و 9 و 16 و 17 من الباب الأوّل الّذي قال صاحب الوسائل رحمه اللّه في عنوانه باب وجوبها عينا على كل مكلف إلّا الهمّ و المسافر الخ، و الرواية 3 و 4 و 5 و 6 من الباب 4، و الرواية 1 و 3 و 4 و 7 و 9 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة.

الرواية الرابعة: من الأخبار المتوهّمة دلالتها على الوجوب العينى مطلقا الروايتان المذكورتان فى الباب 1 و هما أيضا لو فرض كونهما في مقام بيان وجوب صلاة الجمعة و في مقام بيان من وجبت عليهما هذه الصّلاة. «1»

فنقول: بأن غاية ما يستفاد منهما هو وجوب صلاة الجمعة و وجوب الاجتماع

عندها، و نظر هما الى الجمعة المعهودة، فلا تدلّان على وجوب الحضور في كل صلاة جمعة.

الرواية الخامسة: بعض الروايات الدالة على اقل عدد تجزى معه صلاة الجمعة و تكون مشروعة مع هذا العدد.

و هو أيضا على قسمين:

قسم منه لا يدل إلّا على اقل عدد تكون صلاة الجمعة مشروعة مع هذا العدد

______________________________

(1)- الرواية 5 و 18 من الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 46

مثل الرواية 1 من الباب 2.

و قسم منه ممّا يتوهم دلالته على وجوب صلاة الجمعة على الناس إذا كانوا سبعة بالمفهوم، أو بالمنطوق مثل الرواية 2 و 3 و 7 و 8 و 11 من هذا الباب بنقل الوسائل.

[كون الروايات فى بيان أقل عدد تنعقد معه صلاة الجمعة]

و الذي ينبغي أن يقال في هذه الأخبار:

أمّا أولا فبان هذه الأخبار تكون في مقام بيان حكم آخر و هو اقل عدد تنعقد معه صلاة الجمعة لا أمر آخر.

و ثانيا لو فرض كونها في مقام بيان وجوب صلاة الجمعة على الناس إذا كانوا سبعة، و لكن لا دلالة لها بأن وجوبها مطلق أو مشروط بامام خاص، لأنّ في هذه الروايات ليس المعصوم عليه السّلام الا في مقام بيان عدد من تجب الجمعة عليهم لا الخصوصيات الاخرى، و خصوصا مع ما وقع التصريح في بعضها باشتراط الامام مثل الرواية 11، و المراد من الامام يحتمل ان يكون امام الأصل المفترض طاعته لا كل أحد، «بل يمكن دعوى انصراف الامام الى امام الاصل، و مثل ذلك الرواية 1 من الباب 4 و 2 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة في الوسائل.

[في ذكر اقوى رواية دلّت على الوجوب العيني]

الرواية السادسة: الرواية الّتي رواها زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، و لا جمعة لاقل من خمسة من المسلمين، احدهم الامام، فاذا اجتمعت سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم. «1»

______________________________

(1)- الرواية الّتي نقلها صاحب الوسائل مرّتين: الاولى: الرواية 4 من الباب 2 و الثانية:

الرواية 4 من الباب 4 من ابواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 47

و هذه الرواية من اقوى ادلة القائلين بالوجوب العينى.

وجه الاستدلال: هو أن أبا جعفر عليه السّلام أمر بصلوة الجمعة في صورة اجتماع السبعة إن لم يخافوا أن يأمّهم بعضهم، يعنى: يجعلون هذه السبعة من قبل انفسهم إماما منهم، فتدل الرواية على وجوبها، و عدم الحاجة الى الامام الخاص، لأنه أمر بأن يجعلوا الامام واحدا منهم، يعنى: واحدا

من السبعة أيّ شخص كان.

و لكن نقول: بأنّ هذه الرواية أيضا غير قابلة لأنّ تصير شاهدا و دليلا على الوجوب المطلق، و على كل أحد سواء كان معهم الامام عليه السّلام أم لا، لأنّ راوي هذه الرواية هو الصّدوق رحمه اللّه يعنى: هو ناقل الرواية، و قد نقل هذه الرواية في الفقيه، و بعد ما نرى مرارا بان الصّدوق ادخل فتواه في الروايات، يعنى: ذكر فتواه بعد ذكر الروايات في تلو الرواية بحيث صار عمله هذا سببا للشك في بعض الموارد في أن ما ذكره هل هو من ذيل الرواية أو من نفسه بعنوان الفتوى كما في بعض الموارد حصل الاطمينان لنا بأن الذيل ليس جزء للرواية، بل يكون فتواه رحمه اللّه، و حيث أن هذه الرواية أيضا من الروايات الّتي نقلها الصّدوق رحمه اللّه في الفقيه، فيحتمل أن يكون ذيل الرواية أعنى: جملة «فاذا اجتمعت سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم» من فتواه رحمه اللّه.

و نحن و ان لم نقل بتسلّم ذلك، و لكن نقول: بعد وجود هذا الاحتمال لم يبق لنا الاطمينان بكون هذه الفقرة من كلام الامام عليه السّلام، و من ذيل الرواية حتى نأخذ بمدلوله، هذا حال ذيل الرواية.

و امّا صدرها بدون هذا الذيل فيدل على أن الجمعة تجب على سبعة نفر، و يجوز اتيانها للخمسة أيضا، لكن لا بنحو الوجوب في ما كان العدد خمسة، و أمّا إذا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 48

كانوا سبعة فيجب انعقادها مع الامام.

و لا وجه لأنّ يحمل الامام الوارد في الرواية المعتبر وجوده و حضوره على مطلق من يكون عادلا، و يتمكن من اداء اقل الواجب من الخطبة، بل يحتمل أن يكون

المراد الامام الأصل، فلا يجب مع عدم حضور امام الأصل، فافهم «1».

______________________________

(1)- أقول: ما استفدت من بيان سيدنا الأستاد- مد ظله- هو أن الاشكال في هذه الرواية انما تكون من هذه الجهة و لم يتعرض لاشكال آخر، و لكن خطر ببالي القاصر احتمال آخر و عرضت عليه- مد ظله-

و هو أن الرواية تكون في مقام بيان ذكر اقل عدد تنعقد معه الجمعة، فقال: السبعة احدهم الامام، ثمّ قال: فاذا اجتمعت سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم) يعني إذا اجتمعت السبعة، و لم يكن لهم خوف بحيث لا يلتفت الاعداء بانهم اقاموا صلاة الجمعة، أولا يكون اطلاعهم بحالهم باعثا للاضرار بهم، فيقيمون صلاة الجمعة، و يكفى في وجوب انعقادها السبعة، و لا حاجة الى الازيد من ذلك إماما و مأموما و كان ذلك لدفع توهّم اعتبار ازيد من ذلك العدد حتى لا يتخيل السائل أو غيره بلزوم كون السبعة معتبرا فيها غير الامام، فالرواية متعرضة لحيث عدم اعتبار ازيد من ذلك العدد في وجوب انعقادها من الامام و المأموم.

و بعد كون الأمر كذلك، و كون صدر الرواية فقط متعرضا لكفاية السبعة في وجوب الجمعة احدهما الامام، فالذيل و لو فرض كونه جزء الرواية، دال على انّها تنعقد مع عدم الخوف بالسبعة، و أمّ بعض من السبعة بعضا أخر، يعني: واحدا منهم يئم على الستة الباقية، و لا يلزم أن يكون الامام غير السبعة حتّى يكونوا ثمانية

و بعد كون الامام محتملا لكونه هو امام الاصل، فالذيل غير متعرض لغير ما تعرض له الصدر، و أن هذه السبعة الّتي يدلّ الصدر على وجوب الجمعة عليهم اذا اجتمعوا، و لم يكن خوف في البين، تنعقد الجمعة بمجرد ذلك بحيث

يكون الامام واحدا من السبعة بلا احتياج الى الأزيد من ذلك فالسبعة الواجبة عليهم مع عدم الخوف، و الحال أن يكون احدهم الامام تجب الجمعة عليهم، فالرواية غير دالة الا على هذا، فالرواية لا تدلّ على الوجوب مطلقا على كل سبعة، اذ يمكن أن يكون المراد السبعة مع الامام الأصل كما عرفت، فتأمل. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 49

[في ان المراد فى الامام فى روايات سماعة هو السلطان]

اشارة

الرواية السابعة: الروايات الّتي رواها سماعة و هى أربعة على نقل الوسائل «1» و هى الرواية 3 من الباب 5 و الروايات 2 و 6 و 8 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، و هذه الروايات كلها مشتركه في عدم الدلالة على المقصود، للتصريح في كلها بوجوب صلاة الجمعة مع الامام بتعابير مختلفة.

و المراد بالامام، إن لم نقل بكونه هو السلطان الّذي بيده زمام الأمور كما قدمنا فى المقدمة، فلا اقل من عدم امكان حمله على مطلق من يتمكن من أن يصير امام الجماعة و ان لم يكن الامام. عليه السّلام

و لو لم نقل بكون هذه الروايات كلّها دالة على اشتراط الوجوب بحضور السلطان أعني: الامام عليه السّلام، و لكن لا ريب في أن الرواية سماعة تدلّ على الاشتراط و هى هذه «عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الصّلاة يوم الجمعة، فقال: أما مع الامام فركعتان، و امّا لمن صلّى وحده فهى أربع ركعات و ان صلّوا جماعة». «2»

لان هذه الرواية تدلّ على أن في يوم الجمعة تكون الصّلاة ركعتين مع الامام، و أما لو لم يكن الامام و صلّى وحده يعنى: لا مع الامام، فلا بدّ من أن يصلّى أربع ركعات و إن اتى بصلاته جماعة، ففرض بانّه مع

الامام لو صلى و لو بالجماعة فصلاته أربع ركعات، فان تمكن كل شخص عادل على أن يصير إماما في صلاة الجمعة مثل صلاة الجماعة، فلا معنى لأنّ يقول عليه السّلام «و امّا لمن صلى وحده فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة».

______________________________

(1)- الرواية 3 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل؛ و الرواية 2 و 6 و 8 من الباب 6 من ابواب صلاة الجمعة من الوسائل.

(2)- الرواية 8 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 50

[المقصود من الامام فى الرواية هو الامام الأصل]

فهذه العبارة دليل على أن المقصود بالامام في الرواية هو الامام الأصل و المعصوم عليه السّلام، فمع فرض التمكن من اتيان الصّلاة جماعة أمر بالصّلاة أربع ركعات لعدم وصول اليد بالامام الاصل.

و ان كان الامام الوارد في الرواية اعم من الامام الأصل و غيره، فكان اللازم أن يقول «تجب صلاة الجمعة مع تمكن الشخص من اتيان صلاته بالجماعة» لأنّ الشخص لا يتمكن من اتيان صلاة الجماعة أيضا إلّا مع وجود امام عادل، و هو على هذا الفرض كاف لأنّ يصير إماما في صلاة الجمعة، فمن عدم أمره عليه السّلام بصلوة الجمعة مع تمكن الشخص من اتيان صلاته جماعة، نستكشف كون الامام المعتبر في صلاة الجمعة هو امام الأصل، لا الامام الّذي يكتفى به في صلاة الجماعة.

فهذه الرواية تصير دليلا على اشتراط وجود السلطان اعنى: الامام أو من نصبه لذلك، في وجوب صلاة الجمعة. «1»

الرواية الثامنة: الرواية الّتي نقلها في الوسائل مرتين و هى ما رواها فضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا كان القوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات، فان كان لهم من

يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر، و انما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين). «2»

______________________________

(1)- أقول: و ممّا تفطن به سيدنا الأستاذ مدّ ظلّه من أن المراد من الامام في هذه الرواية هو الامام الأصل يمكن أن يقال: بأن هذه الرواية تصير مؤيدا لكون الامام في سائر روايات الباب أيضا هو الامام الأصل، و ببركة هذه الرواية يقوّى الاحتمال الّذي قلناه في بعض الروايات المتقدمة: من كون المراد من الامام هو الامام المفترض الطاعة، لا الاعم منه و من غيره. (المقرّر)

(2)- الرواية 6 من الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل؛ و الرواية 2 من الباب 3 من ابواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 51

و هذه الرواية و ان توهّم دلالتها على وجوب الجمعة بمجرّد اجتماع خمس نفر.

و لكن فيه أيضا ما قلنا مكررا من أن الوجوب مشروط بوجود من يخطب، و هو كما يحتمل لأن يكون كل من يتمكن من اداء اقل الواجب من الخطبة، كذلك يحتمل لأنّ يكون اشارة الى خصوص من يخطب بحسب المتعارف من صلاة الجمعة، و وضعها الخارجى، و ما هو المعهود عند المسلمين، و هو السلطان. «1»

[في توضيح رواية زرارة]

الرواية التاسعة: رواية زرارة (قال: حدثنا ابو عبد اللّه عليه السّلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: فنغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم). «2»

وجه الاستدلال بها: أن أبا عبد اللّه عليه السّلام أمر زرارة باداء صلاة الجمعة و اتيانها، لأنّ المستفاد من كلامه عليه السّلام هو الأمر بأنكم تقيمون هذه الصّلاة عندكم بلا حاجة و اشتراطها بالامام الأصل، لانه بعد ما سأل (بأنا نغدوا عليك) قال: لا يلزم ذلك، بل انتم بانفسكم تقيمون صلاة

الجمعة، فتدل الرواية على عدم اشتراط صلاة الجمعة بالامام الأصل.

و فيه أن المستفاد من الرواية هو انّه بعد ما حث عليه السّلام بصلوة الجمعة و ظهر منه

______________________________

(1)- أقول: لو كان من يخطب اعم من السلطان و غيره، فنوع الاعراب بل كلهم قادرين على اداء اقل الواجب من الخطبة، فكيف لا يكون في القرية شخص يأتي باقل الواجب منها، فهذا شاهد على قوة الاحتمال الثاني من أن المراد بمن يخطب هو المعهود ممّن يخطب.

و ان قيل: بان قرى الاعراب ليست مهمة و مركز الجمعية، فيمكن أن يكون جمع قليل تحت خيمة في موضع و لم يتمكنوا من اداء مقدار الواجب في الخطبة.

فنقول: انّه مع بعد ذلك يكون لازم هذا حمل الرواية على مورد نادر، و هو حمل بعيد، فتأمل.

(المقرّر)

(2)- الرواية 1 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 52

التحريض و الترغيب بها، تخيل زرارة بأنّه عليه السّلام أراد ابداء المخالفة و الخروج على خليفة الجور و بنى على الحرب و الجدال، و لهذا قال زرارة (نغدوا عليك) يعنى نحضر عندك في الصبح.

و منشأ هذا الخيال ليس إلا مما يرى و يدرى من خارجية صلاة الجمعة و وضعها، و انها من المناصب المخصوصة للسلطان، و من بيده زمام الأمور، فمن تحريص الامام، مع ما يعلم من وضعها، تخيل انّه عليه السّلام أراد الخروج على سلطان الجور، لأنه لو حضر لانعقاد صلاة الجمعة، فلا يعد عمله الا خروجا على السلطان، و بناء المخالفة معه، و انه عليه السّلام حيث يعد نفسه الخليفة و السلطان بنى على انعقاد ما هو وظيفته و منصبه، فمجرد ترغيب ابى عبد اللّه عليه السلام بالجمعة صار

سببا لأنّ يخطر ببال زرارة هو انّه عليه السّلام اراد الخروج، و ابداء المخالفة مع سلطان الجور، و لهذا سأل عنه و قال (نغدوا عليك) فقال عليه السّلام: لا، انما عنيت عندكم».

فمعلوم من فهم زرارة أن صلاة الجمعة من شئون الخلافة و السلطنة بحيث يعد انعقادها في قبال سلطان الجور مخالفة معه، و على تقدير ذلك تشتعل نائرة الحرب و الجدال، فاراد أن يحضر في الصبح عنده للخروج و سأل عنه عليه السّلام عن ذلك، و اجاب عليه السّلام بأنّه لا، يعني: لا تحضروا عندي لصلاة الجمعة، بل تقيمونها عند انفسكم.

فقوله «إنما عنيت عندكم». يحتمل أن يكون المراد من أمره بأنّكم تتعقدونها بانفسكم، و لا حاجة الى حضوري، هو أنّكم تقيمونها في أوطانكم، و لازمه هو انكم إن كنتم قادرين على انعقادها رسما بمرأى و منظر من المخالفين، فتقيمونها بهذا النحو، و إلّا ان خفتم من المخالفين فتقيمونها خفية، و الحاصل الّذي يستفاد من الرواية التحريض و الترغيب بها بلا حاجة الى حضور السلطان.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 53

و متحمل لأنّ يكون المراد من قوله «انما عنيت عندكم» هو أنكم تحضرون صلاة الجمعة الّتي يقيمها سلطان الجور أو من نصبه لذلك، فالحاصل على هذا الاحتمال هو حث ابو عبد اللّه عليه السّلام زرارة و ساير الشيعة على الحضور في صلاة جمعة خلفاء الجور و ولاتهم المنصوبين من قبلهم، حتى يحقن بذلك دماء الشيعة، و يصيروا محفوظين، فعلى هذا وجه تحريصه هو التقية و حفظ مواليهم من الهلكة.

و على هذا الاحتمال ليست الرواية دالة على كون صلاة الجمعة واجبة بلا اشتراطها بالامام الأصل، بل الأمر على هذا من الامام صدر لجهة اخرى، و هو الحضور في

جمعة المخالفين تقية، و امّا ما هو مورد وجوب صلاة الجمعة و كون وجوبها مطلقا أو مشروطا فالرواية غير متعرضة له.

و يبعد احتمال الأوّل انّه لو كانت الرواية صادرة على وفق هذا الاحتمال فلازمه وجوب صلاة الجمعة بلا اشتراطها على السلطان من رأس، و الحال أن الاشتراط به في الجملة مسلّم. «1»

______________________________

(1)- أقول: و الشاهد على أقوائية الاحتمال الثاني في الرواية في النظر، هو انّه لو كان حث ابي عبد اللّه عليه السّلام في الرواية دالّا على أن زرارة و غيره من الشيعة قادرين على انعقادها في أنفسهم، و كان الأمر بهم بذلك بدون حاجة الى حضور الامام عليه السّلام:

فإما أن يكون الأمر بانهم يقيمونها في قبال المخالفين علنا فهم غير متمكنين على ذلك، و لو انعقدت بهذا النحو لانجر الأمر الى قتلهم و هلاكهم، لأنّ عملهم هذا يعد مخالفة لسلطان الجور، و لذا ما اقامها أحد من الائمة عليهم السّلام مع ابتلائهم بخلفاء الجور، فلا يأمر ابو عبد اللّه عليه السّلام باتيانها بهذا النحو.

و إما أن يكون المراد من الرواية الأمر باقامة جمعات كثيرة مثلا في الكوفة، بعد كون جماعة الشيعة كثيرة و لم يتمكنوا من اقامة جمعة عامة، فيقيمون جمعات متشتتة في بلد واحد حتى-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 54

الرواية العاشرة: رواية عبد الملك عن ابي جعفر عليه السّلام (قال: قال: مثلك يهلك و لم يصل فريضة فرضها اللّه، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني:

صلّوا الجمعة). «1»

وجه الاستدلال بها: أن المستفاد من الرواية كون ترك صلاة الجمعة سببا للهلاك، و انه يجب الاتيان بصلوة الجمعة بلا اشتراطها الى السلطان كما هو ظاهر

______________________________

لا يصل خبرهم الى المخالفين، مثلا صلوا الجمعة باقل

العدد المعتبر فيها في بيت واحد من الشيعة، و صلوا صلاة اخرى في بيت آخر، و هكذا.

و هذا أيضا لا يمكن الالتزام به، لأنّ لازم ذلك انعقاد جمعات كثيرة مع عدم فصل الفرسخ بينها.

و إما أن يكون حثه و ترغيبه عليه السّلام جماعة الشيعة كلهم بصلوة الجمعة بأنكم تقيمونها، و حيث لستم متمكنين من انعقاد صلاة جمعة عامة، و لا يمكن انعقاد جمعات كثيرة، فتقيمونها و لو بقدر حصول مسماها، مثلا سبعة منكم أو عشرة منكم أو اكثر بالمقدار الّذي لا يبلغ أمركم الى المخالفين، فعلى هذا يكون الحث بجماعة الشيعة لا بخصوص زرارة لأنه قال: حثنا، و الأمر بقوله (انما عنيت عندكم) هو الأمر و التحريض مع هذا التأكيد بالشيعة، على مسمى صلاة الجمعة.

و هذا أيضا ممّا يشكل الالتزام به، لأنه كيف يمكن حمل الخبر- مع هذا التأكيد بالعموم- على كون الأمر و الحث و الترغيب على صرف مسمى صلاة الجمعة، و ان كان نظره الى هذا فلا يلزم ان يعبر بهذا النحو بأن يأمر كلهم، و الحال أن الكل غير متمكنين منها، لأنه لا يمكن انعقادها إلا مع عدة قليلة بمقدار حصول مسماها.

فبعد بعد محتملات:

الاحتمال الاول، فان لم نقل بقوة.

الاحتمال الثاني، و هو كون مدلول الرواية هو الأمر بحضور صلاة جمعة المخالفين لاجل التقية، فلا اقل من عدم الجزم باحتمال و عدم ظهور الرواية فيه، فتأمل. (المقرّر)

(1)- الرواية 2 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 55

اطلاق الرواية.

[في ردّ التمسك برواية عبد الملك بن اعين]

و فيه أن عبد الملك الراوي للرواية هو عبد الملك بن اعين، و كان أولاد ذكور اعين ثمانية، احدهم زرارة و واحد منهم هذا الراوي يعني: عبد الملك، و

لم يكونوا أولا من الفرقة الناجية، و استبصر بعض منهم مثل زرارة، و لكن استبصار عبد الملك غير معلوم و مورد الخلاف في الرجال.

و على كل حال إما يكون عبد الملك غير مستبصر، و باق على طريقة التسنن، فهو بعد ما كان في طريقته من العباد و الزهاد، يمكن أن يكون وجه كلام الامام عليه السّلام هو أن مثلك مع دأبك كيف تركت صلاة الجمعة، لانها على مذهبه- و هي طريقة العامة على فرض عدم استبصاره- واجبة، فمراد الامام عليه السّلام هو انك لما ذا تركت الجمعة مع كونها واجبة عندك.

فعلى هذا لا يمكن الاستدلال بالرواية، لانها كلام صادر منه خطابا على من ليس على طريق الحق و على وفق مذهبه، لاجل بعض المصالح الّتي يكون الامام عالما بها.

و ان صار مستبصرا و خرج عن طريق الباطل و نهج طريق الحق كما أن يكون قوله عليه السّلام «مثلك يهلك» مشعرا بذلك، فيحتمل أن يكون هذا الخطاب به و الأمر بعد ذلك بأن صلوا الجمعة، هو الأمر بحضوره في جمعة المخالفين تقية، لاجل أنه مع زهده يفرّ من الحضور في اجتماعاتهم، و لا يحضر في صلاة جمعة المخالفين، و ذلك ربما يصير سببا للفساد فامر عليه السّلام إيّاه بالحضور في جمعتهم تقيّة. «1»

______________________________

(1)- أقول: و لو كان المراد، على فرض كون عبد الملك مستبصرا، غير أمره بالحضور في-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 56

[الكلام حول رواية محمد بن مسلم]

الرواية الحادية عشرة: الرواية الّتي رواها الكلينى رحمه اللّه «1» في الكافي في باب تهيئة الامام للجمعة و خطبته و الانصات عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السّلام،

______________________________

صلاة جمعة المخالفين، فلا بدّ و أن يكون الأمر بصلوة جمعة اخرى و الصّلاة

الاخرى إما أن تكون صلاة تقيم من قبل الشيعة و أهل الحق و هو لم يحضر عندها على احتمال، أو يكون الأمر بأن تقيموا صلاة الجمعة، كان الأمر بتأسيسها بعد ما لم تكن مرسومة على احتمال.

و كلا الاحتمالين بعيد و لا يناسب مع سياق الرواية، لانّ مثل عبد الملك مع كونه من العباد و الزهاد، و مع كونه من الشيعة على هذا الاحتمال، كيف لا يحضر في صلاة الجمعة الّتي تنعقد من ناحية الشيعة، إن كان لهم صلاة جمعة خارجا مرتبا في كل جمعة و لو كانت في السر، و إن كانت صلاة الجمعة ممّا يجب عليهم انعقادها و يتمكنون منها، فكيف تركوها هؤلاء الاشخاص مع جلالتهم حتى بلغ الأمر الى أن يقول الإمام عليه السّلام مثلك يهلك.

و ان لم يتمكنوا منها أو لا يجب عليهم انعقاد صلاة الجمعة، فأيضا ما معنى قوله (مثلك يهلك) فهذا مؤيد لكون الأمر و التشدد على تقدير كونه من أهل الحق على الحضور في جماعة خلفاء الجور أو من نصب لذلك من قبلهم.

مع أن كون الوارد من المعصوم هو صلاة الجمعة غير معلوم، لأنه كما ترى كانت عبارة الرواية (صلوا جماعة يعني صلوا الجمعة) و جملة (يعنى صلوا الجمعة) يمكن أن لا تكون جزء الخبر و من كلام الامام، و يؤيده انّه قال يعني: صلوا الجمعة، فقوله (يعنى) بصيغة المضارع لا يناسب أن يكون كلام الامام عليه السّلام لأنه لو كانت هذه الفقرة منه عليه السّلام كان اللازم أن يقول (اعني) بصيغة المتكلم، فجملة (يعنى صلوا الجمعة) يحتمل أن يكون من اضافات راوى الاول، أو من واحد ممّن يكون في طريق الرواية.

فعلى هذا لو لم تكن جملة (يعني صلوا

الجمعة) من جزء الرواية، فالصدر لا يدل إلا على الترغيب و الامر و التشدد بالحضور في الجماعة، و أن التشدد شاهد على كون الأمر بالحضور تقية في صلاة جماعة المخالفين. (المقرّر).

(1)- الكافي، ج 3، ص 422، ح 6.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 57

و نقلها صاحب الوسائل رحمه اللّه «1» لكن لا في مورد واحد، بل نقلها متفرقا، و هي رواية مفصلة، و فيها الأمر بالخطبتين.

وجه الاستدلال: أن ما ورد في ضمن ذكر الخطبة و الأمر فيها، بصورة الخطاب، مثلا و تقول كذلك، شاهد على كون صلاة الجمعة واجبة و هم يقيمونها و هو عليه السّلام في هذه الرواية يكون في مقام تعليم الخطبتين، و بيان ما يجب من الخطبة في هذه الصّلاة الواجبة، فيستفاد من ذلك كون أصل الصّلاة واجبة، و لهذا أمر عليه السّلام السائل بأن يؤدي الخطبة بنحو ما بيّنه.

و فيه انه، مع قطع النظر عن اضطراب متن الحديث- لأنّ بعض جملاته تكون بصورة الخطاب، و مع ذلك في بعض جملاته ادّى الكلام في الفعل أو الضمير بصيغة الغائب او الضمير الغائب، مثلا قال: و يدعوا- ان غاية ما يستفاد من الرواية، هو الأمر بالراوي يعني: بمحمد بن مسلم، بأن يقول كذلك في الخطبة، و انه كانت صلاة جمعة في البين.

و لكن بعد كون هذه القضية قضية فى واقعة، فقابل لأنّ يكون هذا الشخص من قبل الإمام عليه السّلام منصوبا لاقامة صلاة الجمعة، و بعد ما يكون منصوبا علّمه الامام الخطبة، فعلى هذا لا ظهور للرواية في كون هذه الصّلاة واجبة مطلقا بدون اشتراطها بالسلطان العادل أو من نصبه لذلك، و لا يستفاد منها اذن عام في جواز اتيانها لكل أحد، لأنّ الرواية

قابلة للحمل على مورد الاذن الخاص، و لا مانع من أن يكون الراوي و هو محمد بن مسلم مع جلالة شأنه ممّن نصبه الامام عليه السّلام لذلك.

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 58

هذا تمام الكلام في الآية و الأخبار الّتي يمكن أن يستدل بها على وجوب صلاة الجمعة بالوجوب العينى مطلقا يعنى بدون اشتراطه بالامام عليه السّلام او من نصبه لذلك.

[ذكر الاقوال فى صلاة الجمعة و لوازمها]

فاذا بلغ الكلام الى هنا نقول: بأن في المسألة اقوالا:

أولها: هو وجوب صلاة الجمعة بالوجوب العينى على كل أحد، مع اجتماع الشرائط، بدون كون الوجوب فيها مشروطا بحضور السلطان او من نصبه لذلك

ثانيها: كونها من المناصب الخاصّة بحيث لا تجب مع عدم السلطان العادل أو من نصبه لذلك، بل لم تكن مشروعة مع عدم وجود هذا الشرط

ثالثها: انّها و إن كانت من مناصب الامام، و لكن اجاز الامام عليه السّلام باقامتها إمّا بالفقهاء على قول من باب ادلة ولاية الحاكم، أو بمطلق الشيعة على قول، فيكون انعقادها مشروعا في مثل زماننا، و يجب انعقادها، لأنه بعد وجوبها في الجملة و حصول الشرط، و هو اذن من يكون زمام أمرها بيده و هو الإمام، فيجب انعقادها.

و هنا بعض اقوال أخر أيضا مثل الوجوب التخييري بمعنى كون المكلف مخيرا، مع وجود ساير الشرائط المعتبرة في صلاة الجمعة، بين أن يصلى في يوم الجمعة صلاة الجمعة و بين أن يصلي الظهر.

اذا عرفت هذه الاقوال نقول: بأن لازم القول الأوّل- و هو كون وجوب صلاة الجمعة وجوبا مطلقا غير مشترط بالسلطان العادل أو من نصبه لذلك، بل تكون أمرها مثل ساير الصلوات اليومية من هذا الحيث،

بمعنى عدم كونها مشترطة الّا بالسبعة احدهم امام عادل مثل امام صلاة الجماعة، غاية الأمر كان متمكنا من

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 59

اداء الخطبة و عدم كون الشخص من جملة المستثنيات- هو أن تنعقد صلاة الجمعة في جميع الاعصار، من زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى يومنا هذا، في كل من الامصار و القرى بفاصلة الفرسخين «يعنى في يوم الجمعة بفاصلة الفرسخين بين صلاة جمعة مع صلاة جمعة» اخرى تنعقد في جميع البلدان و القرى صلاة الجمعة، و جميع الناس الا ما استثنى يتوجّهون نحو هذه الصّلاة من بعد الفرسخين أو فرسخ.

و لازم ذلك أيضا انّه لا يرى اجتماع مثل اجتماعها لأنه على هذا لا صلاة غيرها، و فرض اللّه الاجتماع فيها، فلا بدّ من صيرورتها مشهدا عاما لحضور رجال عندها، و تكون على هذا، أمرها من الأمور الواضحة لدى كل مسلم و مؤمن، بل تصير من الأمور المعروفة عند غير المسلمين، كما يكون اجتماع النصارى في يوم الاحد، و اليهود في يوم السبت في كنائسهم معروفا.

فلا بدّ و أن يكون هذا الاجتماع أيضا معروفا مشهورا و يتخطه الناس نحوه، فلا بدّ و أن تكون هذه الفريضة بهذه الكيفية مغروسة في اذهان المتشرعة من الى الخلف.

فعلى هذا القول لا بدّ و أن تكون بهذه الانحاء أمر صلاة الجمعة، بل و على هذا القول لا بدّ على المكلفين تحصيل الشرائط من العدد، و تهيئة شخص عادل متمكن من اداء الخطبة للامامة، بل و يجب تعليم الخطبة و تعلمها مثل قراءة الصّلاة، بل و يجب كفاية تحصيل العدالة مع عدم وجود شخص عادل للامامة، بل و يجب على كل من كان مكلفا

التفحص من كل جانب من جوانبه فرسخين لتحصيل صلاة الجمعة، أو عدد تنعقد معها صلاة الجمعة، و إن كان الأمر كذلك فكيف يخفى على احد من المسلمين، بل لا بد و أن يكون عندهم من الضروريات، فافهم.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 60

و لازم القول الثاني هو كون صلاة الجمعة صلاة تنعقد مع السلطان العادل أو من نصبه لذلك، فاذا وجد الشرط يجب انعقادها و الا فلا.

[من الاوّل كان امر صلاة الجمعة بيد من كان بيده زمام الأمور حقا أو باطلا]

اذا عرفت ذلك نقول: انّ ما نرى و تجري السيرة على وفقه من زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الى هذه الاواخر، هو كون أمر صلاة الجمعة من شئون السلطنة و الخلافة بحيث نرى ان انعقادها كان بيد من بيده زمام أمور المسلمين حقا أم باطلا، ففي زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان امرها بيده و هو أقامها، و بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اخذ أمرها من غصب الخلافة، و بعد عهد غاصبين الخلافة و بعد ما حوصر عثمان أقامها علي عليه السّلام لانها حقه، و بعد ذلك كل من اخذ مسند الخلافة من خلفاء الجور من بني امية و بني العباس اقامها.

و ليس الأمر بحيث اقامها كل من كان، و ليس الأمر بحيث تمكن من اتيانها و انعقادها بكل سبع، و ليس أمرها مثل ساير الصلوات اليومية الّتي تقيمها الناس جماعة، و لكل احد أن يصير إماما إذا كان عادلا، و لكل احد الاقتداء به و الحضور في جماعته.

بل أمرها كان بنحو خاص، و له شأن مخصوص، و كان من شئون الخلافة و الرئاسة، و هذا ما نرى من خارجيّة هذه الصّلاة و لا نرى عملا على

خلافه، و كان الأمر كذلك عند العامة، لانهم يعدون أمر صلاة الجمعة من الأمور المتعلقة بالسلطان، و حيث يكون الأمر كذلك، و لا يفهم الا كون صلاة الجمعة من مناصب السلطان.

فلو كان أمر صلاة الجمعة عند ائمتنا صلوات اللّه و سلامه عليهم على خلاف ذلك، و كانت صلاة الجمعة حالها من هذا الحيث كسائر الصلوات اليومية، و كان

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 61

يجوز لكل سبعة يكون العادل فيهم انعقادها و وجب عليهم، فكيف لم يبينوا ذلك، و كيف لم يقولوا لأحد من اصحابهم، و الحال انهم بينوا كل ما كان من قول او فعل من الناس على خلاف طريقتهم الحقة، و ما بقى أمر مخفيا من الأمور الحقة و إن كان اظهار الحق مخالفا لفتاوى العامة و لاقوالها.

و لو كانت التقية في البين، لكن في مواقع الفرصة أظهروا الحق و أبدوها كما نرى من بياناتهم في ما كان حكم اللّه على خلاف ما التزمت به العامة، حتى نرى في باب قنوت هذه الصّلاة أن من متفردات الإمامية أنّ لهذه الصّلاة قنوتين في الركعة الاولى و الثانية، و العامة لا يجبون إلّا قنوتا واحدا، فهم عليهم السّلام بيّنوا الحق، و أن لها قنوتين مع كون بيان هذا الحكم على خلافهم.

فلو كانت هذه الفريضة المهمة واجبة مطلقا بالمعنى الّذي قدمناه، و كان حكم اللّه تعالى هكذا، و الحال ان المخالفين جعلوها من مناصب السلطان، فكيف لم يصدر من الائمة عليهم السّلام بيان على ذلك.

فعلى هذا لو كنا نحن و الامر كذلك من الوضع الخارجي من هذه الصّلاة، و ما هو مرتكز عند المسلمين من الخاصّة و العامة، فلم يبق لنا مجال بأن أمر صلاة الجمعة من

الأمور الّتي تكون من شئون الخلافة مسلما.

إذا فهمت ما تلوناه عليك من كون أمر صلاة الجمعة بنحو ما قلنا خارجا.

فلو لم يقم دليل على خلاف ذلك ممّا يستفاد منه إما عدم كون هذه مشروطة بالسلطان العادل أو من نصبه لذلك أصلا على خلاف ما نرى من وضعها في الخارج، أو يستفاد منه انّه مع فرض كونها من وظائف السلطان، و من بيده أمرها، و هو الامام عليه السّلام، لكن اذن باقامتها و انعقادها إما لخصوص الفقهاء، أو لمطلق المؤمنين.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 62

نقول: إن ما يستفاد من الادلة، و اقوال القدماء من العلماء رضوان اللّه عليهم- و هو الحق- كون وجوب صلاة الجمعة مشروطا بالسلطان العادل.

[في وجوب صلاة الجمعة مشروطا بالسلطان العادل امور]

اشارة

و الشاهد على ذلك، مع قطع النظر من كون المراد من الامام في أخبار الباب الامام الأصل الّذي نعبر عنه بالسلطان العادل أمور:

[الامر الاوّل: دعاء على بن الحسين عليه السّلام فى كون هذا الامر بيد السلطان]

الامر الاول: ما ورد في دعاء علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام المنقول في الصحيفة السجادية المعتبرة من حيث السند- و ان كانت الخدشة في النظر في سندها المتداول المنقول في الصحيفة- لانّ لها بعض الأسانيد المعتبرة، و نفس مضامين الصحيفة أيضا شاهد على كونها منه عليه السّلام، لأنّ هذه المضامين العالية لا يمكن صدورها إلا عن مقام الولاية.

و هذا الدعاء صريح في كون صلاة الجمعة من مناصب الامام عليه السّلام حيث قال عليه السّلام في هذا الدعاء «اللهم هذا المقام لخلفائك و اصفيائك و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها و انت المقدر لذلك الى أن قال عليه السّلام- حتى عاد صفوتك و خلفائك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلا- الخ» «1» فيستفاد بالصراحة ان هذا المقام و انعقادها من شئون الامام المفترض طاعته.

[الامر الثاني: كون صلاة الجمعة مشروطة بالامام الاصل]

الامر الثاني: ما قلنا في الرواية السابقة الّتي رواها سماعة «2» حيث أن الظاهر منها، على ما بينّا وجهه، كون صلاة الجمعة مشروطة بالامام الاصل.

______________________________

(1)- صحيفة سجادية الدعاء 48.

(2)- الرواية 8 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 63

[الامر الثالث و الرابع من الامور المربوطة بالمقام]

الامر الثالث: ما يستفاد من الرواية الّتي رواها محمّد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السّلام (قال تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين المؤمنين و لا تجب على الأقل منهم: الامام، و قاضيه، و المدعى حقّا، و المدعي عليه، و الشاهدان و الذي يضرب الحدود بين يدي الامام). «1»

و من الواضح القاضي للامام، و المدعي، و المدعى عليه، و الشاهدان، و ضارب الحدود لا يجتمعون عند مطلق من يكون عادلا و قابلا لصيرورته امام الجماعة.

إذا المراد بالامام ان كان مطلق من يكون عادلا و متمكنا من قراءة الخطبة، مثل من يصير امام الجماعة في ساير الصلوات، فليس له القاضى و المدعي و المدعى عليه و الشاهد ان و ضارب الحدود، و ما هي من شئونه و خصائصه، إذ كثيرا ما ليس الامام بهذا النحو بعالم و لا مجتهد أصلا، فمن بيان هذه الاشخاص في الرواية يستفاد أن المراد من الإمام هو إمام الأصل الّذي من شئونه حضور هؤلاء الاشخاص عنده و لو غالبا.

الامر الرابع: الرواية الواردة في صلاة العيدين و هي رواية عبد اللّه بن ذبيان عن ابي جعفر عليه السّلام (قال: يا عبد اللّه ما من يوم عيد للمسلمين اضحى و لا فطر إلا و هو يجدد اللّه لآل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه حزنا، قال: قلت: و لم؟ قال: انهم يرون حقهم في

ايدي غيرهم). «2»

و هذه الرواية تدلّ على تجديد حزن آل محمد صلوات اللّه عليهم في كل عيد

______________________________

(1)- الرواية 9 من الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

(2)- الرواية 1 من الباب 31 من أبواب صلاة العيدين في الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 64

اضحى و فطر، لانهم يرون حقهم في أيدي غيرهم، و من المعلوم أن المراد من حقهم ليس إلّا صلاة العيد، لأنّ يوم العيد يوم بروز جلالة الرئاسة و الخلافة، لأنّ الخليفة يخرج مع الجلال و الجبروت لأداء صلاة العيد، و الناس يجتمعون حوله، فاهل البيت عليهم السّلام يرون هذا المقام الّذي هو حق لهم، في ايدى الغاصبين، فمن هنا نستكشف كون صلاة العيد من شئون الامامة و الخلافة، و إلّا لا وجه لحزن أهل البيت عليهم السّلام لذلك.

و الرواية و إن وردت في صلاة العيد و لكن بعد كون أمر صلاة الجمعة مثل صلاة العيد من حيث شرطية امام الأصل فيها و عدمها، فنفهم من كون صلاة العيد من مناصب الامام عليه السّلام أنّ اقامة صلاة الجمعة أيضا بيده و من مناصبه عليه السّلام.

[الامر الخامس و نقل اقول العلماء]

الامر الخامس: ما نقل في العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام. «1»

و المستفاد منه أيضا كون صلاة الجمعة من مناصب السلطان، مضافا الى بعض الروايات الأخرى الدالة على كون صلاة الجمعة من المناصب المخصوصة بالامام عليه السّلام، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه، هذا كله حال الروايات.

و امّا اقوال العلماء فنقول: إن المستفاد من كلام السيّد المرتضى رحمه اللّه في الميافارقيات و سلّار رحمه اللّه في المراسم و ابن إدريس رحمه اللّه «2» هو كون شرط انعقاد الجمعة بالإمام العادل أو من نصبه

الإمام لذلك، بل ربما يقال: يحتمل أن يكون هذا هو المترائى من كلام المفيد رحمه اللّه بقرينة كلام تلميذه يعنى سلار رحمه اللّه ذلك.

______________________________

(1)- الرواية 6 من الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل؛ علل الشرائع، ص 264.

(2)- السرائر، ج 1، ص 303.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 65

و ما يظهر من الشّيخ رحمه اللّه من كلامه في النهاية «1» و المبسوط «2» و الخلاف «3» أيضا هذا يعني: كونها مشروطة بالامام أو من نصبه الامام لذلك.

لكنّه قال في النهاية «4» في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كلاما يظهر منه أنّه يجوز للفقهاء انعقاد الجمعة، فعدّ انعقاد الجمعة من جملة ما يكون أمره بيد الفقهاء في حال الغيبة.

و قال في الخلاف، بعد ما بين اشتراط انعقاد صلاة الجمعة بالامام الأصل أو من نصبه لذلك، كلاما بصورة الاشكال و الجواب، و كان حاصل كلامه هو انّه بعد ما قلت من أنّ انعقادها مشروط بالامام أو من نصبه لذلك، فما منشأ تجويز صلاة الجمعة مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك

ثمّ قال: لانا نقول: إن ذلك لما ورد من النص، و ذكر الرواية و أنه يستفاد منها الجواز عند عدم وجود المعصوم عليه السّلام.

[في بيان التعارض في كلمات الشيخ ره]
اشارة

فمن كلامه رحمه اللّه من اشتراط انعقاد الجمعة بالامام أو من نصبه لذلك في النهاية و المبسوط و الخلاف، و من كلامه رحمه اللّه في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من كتاب النهاية و من ذيل كلامه في الخلاف يظهر التعارض بين كلماته في جهتين:

الجهة الاولى: التعارض بين كلامه في النهاية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بأن للفقهاء انعقاد الجمعة، و بين ذيل كلامه في الخلاف بعد

ما قال من اشتراطها

______________________________

(1)- النهاية، باب الجمعة، ص 103 و 107.

(2)- المبسوط، ج 1، كتاب صلاة الجمعة، ص 143.

(3)- خلاف، ج 1، ص 626.

(4)- النهاية، ص 302.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 66

بالامام أو من نصبه لذلك، بأنّه يجوز انعقادها للناس و لو لم يكونوا فقهاء.

الجهة الثانية: التنافي بين كلامه في المبسوط و النهاية و صدر كلامه في الخلاف من اشتراط انعقاد صلاة الجمعة بالامام أو من نصبه لذلك مع ذيل كلامه في الخلاف بأنه يجوز انعقادها و لو مع عدم الامام و عدم من نصبه لذلك.

فكيف يمكن الجمع بين كلماته.

و وجه توجّهنا لكلامه و الدقة في فهمه، و فرض توجيه للتهافت الظاهر بين كلماته، هو ان من قبل عصر الشّيخ رحمه اللّه لا نجد كلاما من الفقهاء يمكن أن يقال: بأن هذا الكلام دال على أن الأئمة عليهم السّلام أذنوا للناس بانعقاد صلاة الجمعة و لو مع عدم حضورهم و حضور من نصبوه بالخصوص لذلك فلم يظهر ذلك إلا من ذيل كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف، و الا فقد أدعي الاجماع قولا و عملا على كونها مشروطة بالامام أو من نصبه لذلك ممّن كان قبل الشّيخ من السيّد و السلّار و ابن إدريس و المفيد على احتمال، و كذلك الشّيخ مع قطع النظر عن هذا الكلام الّذي قاله في الخلاف في ذيل كلامه، نعم يظهر من الصّدوق رحمه اللّه انّه تنعقد صلاة الجمعة و لو بدون الامام أو من نصبه لذلك.

و لكن العمدة في ابداء الجواز، و ما ذهب إليه المتأخرين من الفقهاء من جواز انعقاد الجمعة مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك، هو فتوى الشّيخ رحمه اللّه في هذا المقام،

و إلا فمع قطع النظر عن ذلك، فالاجماع المدعى محفوظ بحاله، و لازمه هو عدم جواز انعقادها إلّا بالشرط المتقدم.

فما نقول في المقام: هو انّه هل يمكن رفع التنافي بين كلمات الشّيخ رحمه اللّه أو لا يمكن هذا؟ و هل نأخذ بالاجماع إن وجدنا توجيها لذيل كلامه، أو نأخذ بالذيل، و لا بدّ

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 67

على هذا من توجيه الاجماع بنحو لا يتنافى مع الذيل، أو نقول بأنّه لا يجي ء بالنظر توجيه لرفع التنافي.

و على كل حال لا بدّ لنا من النظر بعد ذلك ثانيا في أخبار الباب حتى نرى يوجد فيها ما يكون شاهدا على ورود الاذن من ناحيتهم عليهم السّلام في انعقاد الجمعة و لو مع عدم الامام عليه السّلام او من نصبه لذلك، و نتصرف في الاجماع المتقدم على هذا، أولا يوجد شاهد على الاذن أصلا.

[ما يمكن ان يقال في رفع التعارض وجوه:]
اشارة

فنقول ما يمكن أن يقال في رفع التنافي بين كلمات الشيخ رحمه اللّه وجوه:

الوجه الاول [الاذن]

: هو أن يكون المراد ممّا قاله من جواز انعقاد صلاة الجمعة للناس و لو مع عدم السلطان أو من نصبه لذلك هو الاذن يعني: جواز انعقادها يكون بمقتضى الاذن الّذي يستفاد من الرواية «1» المتقدمة في نظره، فهم عليهم السّلام اذنوا بذلك، فيرفع التنافى، لأنّ صلاة الجمعة و لو كانت مشروطة بالامام العادل، و لكن يجوز انعقادها باذن الامام الّذي بيده زمام أمرها، فكما ينصب الامام شخصا خاصا لذلك، كذلك له أن يأذن بانعقادها بنحو مطلق للناس.

و يرتفع التنافي بهذا البيان بين كلامه في النهاية بأن للفقهاء انعقادها و أن ذلك من مناصبهم، و بين جواز انعقادها لسبعة انفار من المسلمين و لو لم يكن بينهم الفقيه، لأنّ من بيده أمرها و هو الامام الاصل تارة ينصب شخصا خاصا لذلك، و تارة اشخاصا مخصوصين الذين هم واردون تحت عنوان خاص كالفقهاء من باب كونهم فقهاء، و تارة يأذن لكل احد من الناس، و فيهم من يكون عادلا و قادرا على إنشاء

______________________________

(1)- الرواية 2 من الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 68

الخطبتين إذا كانوا سبعة نفر، فيرتفع تنافي الاولى و الثانية.

و فيه أن هذا التوجيه لا يناسب مع ما ادعى الشيخ رحمه اللّه من الاجماع القولي على كون انعقاد صلاة الجمعة مشروطا بالامام أو من نصبه لذلك، فان ظاهر هذا الكلام هو كون نفس الانعقاد مشروطا بذلك، فعلى هذا لا يصح انعقادها بدون ذلك و ليس المراد انّه بيد الامام زمام الأمر حتى يعطى أمره بيد من شاء و يجوّز لمن شاء.

و ثانيا ظاهر

كلامه هو الفتوى بالجواز، لا أن المستفاد من الرواية هو الاذن، بل مراده انّه يقول بجواز الانعقاد في صورة عدم السلطان أو من نصبه لذلك بمقتضى الرواية، و بعد كون هذا الكلام هو الفتوى منه، فيبقى التنافي بين كلامه، و انه لو كان الاجماع على الاشتراط فلا معنى للجواز مع عدم الشرط، و ان كان الحكم هو الجواز و لو مع عدم الشرط فلا معنى لدعوى الاجماع على الاشتراط.

[الوجه الثاني: في صورة بسط اليد أمرها بيد الامام]

الوجه الثاني: هو أن يقال بأن مراده رحمه اللّه من اشتراطها بالامام أو من نصبه لذلك هو اشتراطها بذلك في حال التمكن و بسط يده، و امّا مع عدمه فيجوز الانعقاد و لو مع عدم الامام و عدم من نصبه لذلك، فيرتفع التنافي لأنّ الشرط الّذي اعتبره رحمه اللّه اعتبره في صورة التمكن و بسط يد الامام، و الجواز الّذي قال به مع عدم الشرط كان في زمان عدم حضور الامام.

و فيه أن هذا التوجيه أيضا لا يناسب مع ما قاله رحمه اللّه في مقام عدّ شرائط صلاة الجمعة من أنها مشروطة بالامام أو من نصبه لذلك و العدد الخ، فالعدد شرط في حالتي التمكن و عدمه، فعلى هذا لم يكن هو في مقام بيان ما هو شرط في خصوص حال التمكن، بل هو كان في مقام ما هو شرط فيها مطلقا، و عدّ من شرائطها المطلقة الامام أو من نصبه لذلك، و العدد أيضا من الشرائط المطلقة.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 69

[الوجه الثالث و الرابع]
اشارة

الوجه الثالث: هو أن يقال: كما يظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد بأن شرطية الامام أو من نصبه لذلك معتبرة في وجوبها التعييني، و أمّا وجوبها التخييرى فغير مشروط بهذا الشرط، نقول هكذا في كلام الشيخ، و بذلك يرتفع التنافي بين كلماته.

بأن يقال: إن صلاة الجمعة لا تجب بالوجوب التعييني الا مع امام الأصل أو من نصبه لذلك، و امّا مع عدم هذا الشرط، فتجب صلاة الجمعة لكن بالوجوب التخييري.

فيحمل كلامه الظاهر في الاشتراط بكون الشرط شرطا في الوجوب التعييني، و يحمل كلامه الظاهر في الجواز حتى مع عدم حصول الشرط على انّه تجب صلاة الجمعة مع عدم الشرط بالوجوب التخييري.

و

فيه ما قلنا من الاشكال الوارد على التوجيه الثاني، فان ما عدّه من الشرائط- كالعدد و غيره- شرط مطلقا، و لا يمكن أن يقال بأن العدد شرط في وجوبها التعييني فقط لا في وجوبها التخييري، فمن سياق عبارته و بيان الشرائط يستفاد بأنه رحمه اللّه يكون في مقام ما هو شرط فيها مطلقا.

الوجه الرابع: أن يقال: كما قلنا من انّه يتراءى من بعض العبائر، و ما هو محتمل في بعض الكلمات، إنه كان خارجا صلاة جمعة كبيرة، و صلاة جمعة اخرى صغيرة، فالكبيرة منها هي الّتي كانت مشهدا عاما، و الناس يجتمعون عندها، و هذه الصّلاة يكون أمرها بيد السلطان، و تنعقد من ناحيته، كذلك كانت صلاة جمعة صغيرة و هي تحصل بمجرد مسماها و هي سبعة أنفار و هذه الصّلاة ليست موقوفة بالسلطان أو من نصبه السلطان، بل لكل سبعة أن ينعقدونها مع كون عادل متمكن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 70

من اداء الخطبة بينهم.

[في وجود صلاة الجمعة صغيرة و صلاة الجمعة كبيرة]

فيقال: إن بهذا النحو يرتفع التنافي من كلام الشّيخ رحمه اللّه بأن يقال: كان مراده أن شرط صلاة الجمعة الكبيرة هو السلطان العادل أو من نصبه لذلك، و امّا الصغيرة فتجوز و لو مع عدم حضور السلطان العادل، فكلامه الظاهر في الاشتراط ناظر الى الجمعة الكبيرة، و كلامه الظاهر في الجواز ناظر الى الصغيرة.

و فيه أولا أن استكشاف مشروعية الجمعتين: جمعة كبيرة و جمعة صغيرة في الاسلام مشكل و لا دليل عليه.

و ثانيا كون مراد الشّيخ من بيان الاشتراط في النهاية و المبسوط و صدر كلامه في الخلاف، هو كون الشرط شرطا في صلاة الجمعة الكبيرة، و كون مراده من جواز انعقادها بدون الشرط كما يظهر من ذيل كلامه

في الخلاف، هو الجواز في صلاة الجمعة الصغيرة، بعيد و لا دليل عليه، بل سياق كلامه شاهد على الخلاف قلنا في الوجه الثاني و الثالث.

فلا يمكن توجيه كلام الشّيخ رحمه اللّه بحيث يرتفع التنافي بهذه الوجوه.

فاذا نقول- بعد ما قلنا من كون اشتراط السلطان او من نصبه لذلك مسلما في صلاة الجمعة كما يظهر ذلك من ظهور كلمات عدة من القدماء و دعواهم الاجماع على ذلك لا- يمكن الالتزام بكون صلاة الجمعة واجبة بدون اشتراطها بالامام أصلا، بحيث تجب بمجرد وجود سبعة أنفار، لما قلنا من الاجماع و ما نرى من وضعها الخارجي، و السيرة المستمرة من الصدر الأوّل الى هذه الاواخر، فاشتراطها بالسلطان العادل معلوم.

فمن ادعى الوجوب مع عدم هذا الشرط، فلا بدّ من أن يدعي ورود الاذن من

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 71

ناحية من يكون أمرها بيده يعني: النبي و الائمة عليهم السّلام، فان ثبت هذا الاذن فنقول بجواز انعقادها أو وجوبها في حال الغيبة مثل هذا الزمان، و الّا فلا يمكن الالتزام بذلك.

[في ذكر بعض الاخبار الدالّة على الاذن من الائمة]
اشارة

فاذا نعطف الكلام الى ذكر بعض الاخبار الّتي قيل بكونها دالة على ورود الاذن منهم عليهم السّلام.

و نحن و إن قدّمنا الكلام في بعض هذه الأخبار عند ما كنا في مقام فهم أصل كيفية الوجوب، و أن وجوبها هل هو مطلق أو مشروط، و قلنا بعدم وجود رواية دالة على وجوبها المطلق بلا اشتراطها بالامام، بل قلنا بدلالة بعض الأخبار و الاجماع و السيرة على اعتبار هذا الشرط، و فرغنا عن ذلك، و لكن نتكلم فيها مرة اخرى كي يتضح المطلب لمن اراد البصيرة، و انه بعد الفراغ من الاشتراط و كون الامر بيد الامام هل ورد الاذن

منه عليه السّلام أولا.

فنقول بعونه تعالى: إن ما يظهر من ذيل كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف كما قلنا تمسك للجواز مع عدم حضور السلطان أو من نصبه لذلك باحدى الروايات الواردة في أهل القرى، فنقول: إن هذه الروايات تكون ثلاثة.

الرواية الاولى: رواية عبد اللّه بن بكير (قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أ يصلون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم اذا لم يخافو). «1»

وجه الاستدلال بها انّه سأل عن تكليف قوم ساكنين في قرية، و فرض عدم

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 12 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 72

وجود الشخص الّذي يمكن أن يجمع به يعنى السلطان، فهل لهم أن يقيمون صلاة الجمعة بانفسهم مع عدم من يجمع بهم، و اجاب الامام عليه السّلام بأنّه يجوز لهم أما إذا لم يخافوا، فاذن عليه السّلام بانعقاد الجمعة و لو مع عدم حضور السلطان أو من نصبه لذلك.

[في الاشكال بان السؤال عن صلاة الظهر فى الرواية لا عن صلاة الجمعة و جوابه]

فان قيل: إن ظاهر الرواية هو السؤال عن الظهر، و انه مع عدم من يجمع بهم هل يصلون صلاة الظهر بالجماعة أم لا، لظهور قول السائل «أ يصلون الظهر يوم الجمعة في جماعة» في ذلك، و اجاب عليه السّلام بجواز ذلك مع فرض عدم التمكن من صلاة الجمعة لعدم وجود من يجمع بهم، فالسؤال و الجواب يكون عن صلاة الظهر فلا ربط للرواية بصلوة الجمعة.

فانه يقال: و لو كان ظاهر كلام السائل هو السؤال عن الظهر، و لكن قوله عليه السّلام «اذا لم يخافوا» قرينة على كون المراد من الظهر هو صلاة الجمعة، لأنّ اتيان الظهر بالجماعة مع عدم التمكن من صلاة

الجمعة لا خوف فيه و لا تقية فيه، بل الخوف يكون في انعقاد صلاة الجمعة بدون حضور السلطان أو من نصبه لذلك، لانّهم يعدّون أمر هذه الصّلاة من شئون السلطان، فانعقادها على خلاف ما عند المخالفين ربّما يكون مورد الخوف، فلهذا قال عليه السّلام «نعم اذا لم يخافوا».

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه الاستدلال بالرواية.

و فيه أن مفاد الرواية أمر آخر، و نقول مقدمة: اختلفت العامة في انّه إذا لم تنعقد صلاة الجمعة لعدم حصول شرطها فهل يصح اتيان صلاة الظهر بالجماعة في يوم الجمعة أم لا، فبعضهم قال بالجواز مع الكراهة، و أبو حنيفة قال بعدم الجواز.

إذا عرفت ذلك نقول: إن سؤال السائل عن جواز اتيان الظهر جماعة في يوم الجمعة و عدمه، مع عدم التمكن من اتيان صلاة الجمعة، و جواب الامام عليه السّلام بجواز

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 73

ذلك لكن في صورة عدم الخوف، يكون من باب أن السائل كوفي، و حيث كانت الفتوى المتداولة في الكوفة و نواحيها في عصر السؤال هي فتوى أبي حنيفة، فقيّد الجواز بعدم الخوف، لأنّ اتيان صلاة الظهر جماعة يوم الجمعة مخالف لفتوى ابي حنيفة، فجوز الامام عليه السّلام لهم ذلك مع عدم الخوف من المخالفين، فالسائل سأل حتى يعلم بأنّه يجوز اتيان الظهر جماعة يوم الجمعة، أو يكون الأمر كما افتى به ابو حنيفة، فقال عليه السّلام بجواز ذلك مع التقييد بعدم الخوف لاجل التقية عن المخالفين التابعين لابي حنيفة. «1»

[في ان رواية محمد بن مسلم لا تدلّ على الاذن]

الرواية الثانية: رواية محمد بن مسلم عن احدهما قال: «سألته عن اناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة؟ قال: نعم، و يصلون اربعا إذا لم يكن من يخطب» «2».

وجه التمسك بكون

الرواية دالة على الاذن في انعقاد صلاة الجمعة حتى مع عدم حضور الامام هو مفهوم قوله «اذا لم يكن من يخطب» لأنّ مفهومه هو انّه إذا كان من يخطب يجب اتيان صلاة الجمعة.

و فيه أن مفاد الرواية ليس إلا السؤال عن اناس يكونون في قرية، و انهم هل

______________________________

(1)- أقول: و لو اغمضنا عما قاله سيدنا الأستاد- مد ظله- فأيضا لا يمكن استفادة ظهور للرواية في كون المراد صلاة الجمعة بقرينة قوله «إذا لم يخافوا» فانّه كما لا يمكن اقامة صلاة الجمعة في قبال المخالفين، كذلك لا يمكن انعقاد صلاة الجماعة علنا في قبال جماعتهم، لكونه أمرا مستنكرا عندهم، و حتى الآن يكون كذلك، بل لا بد من الحضور في جماعتهم، و كيف يمكن انعقاد جماعة في قبال جماعتهم، فانهم يعدون ذلك شق عصا المسلمين، فعلى هذا بعد كون الظاهر من صدر الرواية هو كون السؤال عن الظهر، فجواب الامام عليه السّلام بجواز ذلك مع عدم الخوف يكون مناسبا للسؤال. (المقرّر).

(2)- الرواية 1 من الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة في الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 74

يصلون الجمعة بالجماعة و على هذا إمّا أن يكون المراد من الجمعة صلاة الجمعة على احتمال، فيكون سؤال السائل عن جواز صلاة الجمعة بالجماعة، و انه يصح اتيانها جماعة، فأجاب عليه السّلام نعم، يصلون جماعة لكن أربع ركعات إذا لم يكن من يخطب يعني: مع عدم من يخطب بهم لا بدّ من أن يصلّوا الظهر، و لكن هذا الاحتمال لا يناسب سياق الرواية.

و إما أن يكون السؤال من اتيان صلاة الظاهر جماعة، و لا ينافي ذلك تعبير السائل عن الظهر بالجمعة، لأنّ اطلاق الجمعة و ارادة الظهر منها ورد

مكررا في الروايات مثل رواية فضل بن عبد الملك الّتي يأتى الكلام فيها إن شاء اللّه، فسأل السائل بأنّه هل يجوز اتيان الظهر جماعة، فقال عليه السّلام: نعم، يجوز لهم و يصلون أربع ركعات إذا لم يكن من يخطب بهم، و على كلا الاحتمالين يكون فرض السائل هو القرية.

فنقول:

أولا: بأن المفروض عند السائل هو عدم انعقاد صلاة الجمعة من ناحية السلطان أو من نصبه لذلك، لعدم كون السلطان في القرية، و لهذا سأل عن جواز انعقاد أهل القرية الصّلاة الجمعة بلا حضور السلطان أو من نصبه لذلك على الاحتمال الاول، أو الظهر على الاحتمال الثاني، فاجاب عليه السّلام بجواز الجماعة، و لكن يصلون أربع ركعات، فيكون ذكر قوله (إذا لم يكن من يخطب) قيدا غالبيا لعدم السلطان أو من نصبه لذلك في القرية غالبا، فبعد كون قيد (من يخطب) قيدا غالبيا مثل (و ربائبكم اللاتي في حجوركم) فلا مفهوم لهذا الكلام يعني: لقوله (إذا لم يكن من يخطب) فلا وجه لأن يقال بأن المستفاد من الجملة الشرطية هو الوجوب إذا كان من يخطب.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 75

و ثانيا: لو فرض كون المفهوم لقوله (إذا لم يكن من يخطب) و كون مفهومه يجوز أو يجب انعقاد صلاة الجمعة مع وجود من يخطب في القرية.

فنقول: إن من يخطب قابل بحسب الاحتمال لأنّ يكون من يخطب المعهود يعني السلطان أو المنصوب من قبله و قابل لأنّ يكون المراد ممّن يخطب كل من يقدر على اداء الخطبة.

فان لم نقل بكون أقوى الاحتمالين الاحتمال الاول، فلا وجه لترجيح الاحتمال الثاني أما أولا فلما قلنا من أن المعهود هو كون انعقاد صلاة الجمعة بيد السلطان أو المنصوب من قبله.

و ثانيا:

سياق العبارة حاك عن كون الفرض عند السائل هو عدم التمكن من الجمعة المعهودة، و لهذا سأل عن اتيان الظهر جماعة، فاجاب عليه السّلام بجواز ذلك، و انهم يصلون أربع ركعات، و لكن لرفع توهّم عدم كون القرية مانعة من انعقاد الجمعة، قيد حكمه بما (إذا لم يكن من يخطب) يعني: لو وجد من يخطب المعهود و لو في القرية يجب عليهم اتيان صلاة الجمعة.

و ثالثا: أن الامام عليه السّلام كان حكمه مشروطا بعدم وجود من يخطب، و من يخطب إن كان من يخطب المعهود فهو، و ان كان من يخطب كل من يقدر على اداء الخطبة، فلازمه حمل الحكم على المورد النّادر لأنّ في القرى خصوصا مع كون اهلها من الاعراب، لا توجد الصورة الّتي لم يكن بين ساكني القرية من لا يقدر على اداء أقل الواجب من الخطبة، و هو الحمد و الصلوات مثلا، لانهم عالمون بذلك، لانهم يؤدون صلواتهم و الصلوات اليومية مشتملة على ذلك، فكيف لا يتمكنون من قراءة الخطبة، و لو فرض مورد فيكون موردا نادرا، فعلى هذا يلزم كون حكم الامام عليه السّلام

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 76

باتيان أربع ركعات محمولا على مورد نادر أو غير واقع، و هذا أمر بعيد، فعلى هذا يكون الاقوى بالنظر هو كون المراد ممّن يخطب هو المعهود منه. «1»

[الكلام فى رواية فضل بن عبد الملك]

الرواية الثالثة: رواية فضل بن عبد الملك (قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

إذا كان القوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات، فان كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر). «2»

و فيه- مع انّه لو اخذ بإطلاق قوله «فان كان لهم من يخطب لهم جمعوا» فلازمه وجوب انعقاد صلاة

الجمعة بمجرد وجود كل من يتمكن من اداء الخطبة، و لازم ذلك الالتزام بعدم الاشتراط بوجود السلطان أصلا، و لا يمكن الالتزام به.

انّ غاية ما يستفاد من الرواية هو وجوب صلاة الجمعة مع من يخطب، و من يخطب قابل لأنّ يكون من يخطب المعهود يعني: السلطان أو من نصبه لذلك، و قابل يكون اعم منه و من غيره، و الاحتمال الاول لو لم يكن اقوى للوجوه الّتي قدمناها في الرواية السابقة، فلا اقل من تساوي الاحتمالين، و اثره عدم ظهور للرواية في ما

______________________________

(1)- أقول: و ان قلت: بأن المراد بقوله (من يخطب) كل من يقدر على إنشاء اقل واجب الخطبتين، فالمستفاد من الرواية وجوب الجمعة بمجرد وجود ذلك، و ان لازمه هو كون وجوبها غير مشروط بالسلطان من رأس، لا انّه مشروط به، و لكن قد ورد الاذن لنا بذلك.

نقول: فان كان هذا مدلول الرواية فهو ممّا لا يمكن الالتزام به لما قدمنا من الاجماع على الاشتراط، فتأمل و مع قطع النظر عن ذلك فغاية ما يستفاد من الرواية وجوب الجمعة مع وجود من يخطب، فالرواية تكون في مقام بيان أصل الوجوب مع هذا الشرط، و ليست في مقام ذكر من هو الخطيب، و ان المعتبر فيه اي صفة من الصفات، و انه هل هو السلطان فقط أو كل من يقدر على اداء الخطبة. (المقرّر).

(2)- الرواية 2 من الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة في الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 77

ادعى القائل بالوجوب من استفادة الاذن من الرواية.

[في ذكر اشكال و دفعه]

و لقائل أن يقول: بأن ما رايناه في بعض الروايات في المسألة هو الأمر بصلوة الجمعة، أو اخبر بوجوبها مع الإمام، أو مع امام عادل فعبر

بلفظ الامام.

و ما نرى في هذه الروايات الثلاثة هو الأمر بهذه الصّلاة مع وجود من يخطب، فعدل فيها عن التعبير بالامام و عبر بمن يخطب، فنكشف من ذلك بأن المراد من التعبير بمن يخطب، هو أن كل من يتمكن من اداء الخطبة لو وجد، تجب هذه الصّلاة و لو لم يكن الامام أو من نصبه لذلك:

و فيه أن التعبير في هذه الروايات الثلاثة بهذا اللفظ يعني (من يخطب) يمكن أن يكون لاجل ما ورد في بعض الروايات، و من جملة هذه الروايات الرواية الثالثة.

بأن وجه كون صلاة الجمعة ركعتين هو كون الخطبتين مقام الركعتين، ففي هذه الروايات حيث أمر بصلوة الظهر و اتيان أربع ركعات، و لهذا قال يجب الاتيان بأربع ركعات في ما لا يكون من يخطب، لأنه اذا كان من يخطب فيقرأ الخطبتين، و هما تكونان مقام الركعتين، فالتعبير (بمن يخطب) في هذه الروايات يمكن أن يكون وجهه ما قلنا.

هذا تمام الكلام في الروايات الثلاثة الواردة في القرية و كانت واحدة منها منشأ فتوى الشّيخ رحمه اللّه على ما يظهر من ذيل كلامه في الخلاف، و قد يتوهم من بعض الاخبار الاخر ثبوت الاذن بانعقاد صلاة الجمعة مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك:

منها: رواية عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (قال: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة، فليصلوا في جماعة، و ليلبس البرد و العمامة، و يتوكأ على قوس أو عصا،

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 78

و ليقعد قعدة بين الخطبتين، و يجهر بالقراءة، و يقنت في الركعة الاولى منهما قبل الركوع). «1»

و قد تعرضنا لها قبلا أيضا، و قلنا بأن الأمر بلبس البرد و العمامة، و التوكؤ على القوس

و العصا الى الآخر، قرينة على كون المراد صلاة الجمعة لا صلاة الجماعة.

وجه الاستدلال بها: على الاذن بانعقاد صلاة الجمعة، هو أن المعصوم عليه السّلام قال: إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة، يعني: يقيمون صلاة الجمعة، فاذن بها مع وجود السبعة.

[الرواية غير دالة على المدعى]

و فيه: أنّ الرواية غير دالة على ذلك، اذ مرجع ضمير قوله في الرواية «اذا كانوا» غير معلوم، فهل المراد منه كل من كان، أن يكون المراد سبعة مخصوصة، فحيث إن ذلك غير معلوم، فلا يمكن استفادة اذن المطلق منها، بل يستكشف من الرواية بحسب سياقها ان ما نقل منها ليس تمامها، بل الرواية تكون مشتملة على زيادة و لم تنقل تلك الزيادة، خصوصا مع ما في ذيلها من قوله «و ليلبس البرد و العمامة» الخ فالمرجع في كل الافعال يعني (و ليلبس و ليقعد و يجهر و يقنت) غير معلوم، و لم يدر بان المراد من المرجع هو الامام الخاص يعني: امام الأصل، أو يكون المراد هو كل من يقدر على الامامة و اداء الخطبة، فلا يمكن دعوى الظهور للرواية في الاذن بانعقاد صلاة الجمعة لكل شخص.

و منها: ما رواه «2» في الكافي عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السّلام الّتي قدمنا الكلام فيها المشتملة على بيان الخطبتين، و فيها ما يدل على أن أبا جعفر عليه السّلام أمر محمد

______________________________

(1)- الرواية 5 من الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

(2)- الكافى، ج 3، ص 422، ح 6.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 79

بن مسلم بأن يقول كذا و كذا، و كان كلامه بصورة الخطاب مثلا و تقول.

فيمكن أن يقال: بأن هذه الرواية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة بلا

تقييد بحضور الامام أو من نصبه بالخصوص لذلك، و ان الامام عليه السّلام كما في الرواية أمر الراوي بقراءة الخطبتين قبل صلاة الجمعة بكيفية خاصة، فيستفاد من ذلك مشروعية صلاة الجمعة حتى مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك.

و فيه مع ما قلنا سابقا و مع قطع النظر عن اضطراب متن الحديث، لما ورد في بعض مواضعه بصورة الخطاب، ثمّ في بعض مواضعه بعنوان الغائب مثلا في موضع قال (و تقول) و في موضع آخر قال (و يدعو اللّه).

نقول بأن غاية ما يستفاد من الرواية هو أنّه عليه السّلام أمر محمد بن مسلم بقراءة الخطبتين بنحو مخصوص، فهو كما يمكن أن يكون قابلا للاذن العام للناس و منهم الراوي، كما هو ادعاء من يدعي الاذن، كذلك يكون قابلا لكون أمره السائل من باب جعل النيابة للراوي بالخصوص، فكان هو ممّن نصبه لذلك، و لا يبعد ذلك مع جلالة محمد بن مسلم، و إن أبيت عن ذلك، و ادعيت عدم كون الرواية ظاهرة في الاحتمال الثاني، فلا مجال لدعوى ظهورها في الاحتمال الاول.

و منها: الرواية «1» الّتي قد منا ذكرها أيضا و هي رواية زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام قال: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا جمعة لاقل من خمسة احدهم الامام، فاذا اجتمعت سبعة، و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم».

بتوهم أن المستفاد من الرواية الاذن في انعقاد صلاة الجمعة إذا اجتمعت

______________________________

(1)- الرواية 4 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 80

سبعة نفر و لم يخافوا، فبمجرد عدم الخوف مع وجود سبعة نفر يقيمون صلاة الجمعة، و يجعلون إماما باختيارهم من افرادهم، و

يجمعون به، فواحد منهم يصير إماما و الآخرون يقتدون به، و يقيمون صلاة الجمعة.

و فيه كما قلنا سابقا لا ندري الذيل اعني «فاذا اجتمعت سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم» جزء للرواية، اذ بعد ما نرى بأن الصدوق رحمه اللّه يضمّ فتواه بالرواية، يعني: يذكرها متصلة بالرواية في بعض الموارد، كذلك يحتمل أن يكون هذا الذيل أيضا فتواه و ذكرها بعد الرواية، فان الصّدوق رحمه اللّه ذكر الرواية في الفقيه بهذا النحو.

[الكلام فى نقل كلام الصدوق فى كتابه المسمى بالهداية]

و يؤيد هذا الاحتمال اعني كون الذيل من الصّدوق رحمه اللّه:

أوّلا: ما ذكره في كتابه المسمّى بالهداية في باب فضل الجماعة، فان ظاهر كلامه و إن كان باب فضل الجماعة، و لكن ما ذكر في هذا الباب ليس مربوطا الا بصلوة الجمعة، و هو بعد ذكر بعض ما يكون مربوطا بصلوة الجمعة قال «فاذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم» فانك ترى أن ما ذكر هنا في مقام الفتوى، هو عين ما نقل في ذيل هذه الرواية المبحوث عنها، ثمّ قال بعد ذلك: و الخطبة بعد الصّلاة لانها بدل الاخيرتين، و قدمهما عثمان، ثمّ قال «و السبعة الذين ذكرناهم الإمام و المؤذن و القاضي و المدعى عليه و المدعي حقا و الشاهدان» فانت ترى بأن كلامه هنا في مقام الفتوى هو عين كلامه الّذي نقل في ذيل الرواية، فهذا يؤيد كون الذيل أيضا فتواه، و ما قاله: بأن الخطبة في صلاة الجمعة بعدها و انما قدمهما عثمان اشتباه محض لأنّ المسلم خلاف ذلك.

و ما قاله في ذيل كلامه يستفاد منه أن مراده من الامام في السبعة الذين أحدهم الإمام هو امام الأصل، لأنّ ما قال بأن (السبعة الذين

ذكرناهم الامام و ...)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 81

هو عين مدلول رواية محمد بن مسلم، و هي الرواية 9 من الباب الثاني من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل المتقدم ذكرها عند ذكر الأخبار الدالة على اشتراط الامام الأصل في مشروعية صلاة الجمعة، غاية الأمر عد واحدا من السبعة في رواية محمد بن مسلم (الذي يضرب الحدود) و الصدوق عد بدله (المؤذّن).

و وجه كون مراده من الامام هو امام أصل ما قلناه في ذيل رواية محمد بن مسلم المتقدمة من أنّ ما يعد من السبعة مع الامام لا يناسب وجودهم إلا مع إمام الأصل، لأنه هو الّذي عنده القاضي و المدعي و المدعى عليه و الشاهدان، و ان كان الامام أعم من الامام الأصل و غيره يعني: كل من يمكن الاقتداء به في الجماعة، فليس غالبا فقيها و مجتهدا حتى يكون عنده هؤلاء الاشخاص، و كان حضور هؤلاء الاشخاص عنده من شئونه.

و ثانيا: ترى أن المحقق في المعتبر، و العلّامة في المختلف، و الشهيد الثاني رحمه اللّه في غاية المراد لم ينقلوا هذه الرواية في مقام التعرض لهذه المسألة و نقلوا أخبارها مع كون الرواية على فرض كون الذيل جزء منها، من اوضح ما في الباب من الروايات على المطلب، و كذا الفاضل المقداد شارح الفقيه قال بعدم كون تلك الفقرة جزء للرواية، فيحتمل أن يكون عدم ذكر المحقق و العلّامة و الشهيد الرواية، من باب وجود مدرك عندهم على عدم كون الذيل جزء الرواية، بل ترى أن في كتاب الفقيه المطبوع في الهند ذكر بعدم كون الذيل اعني «و لا جمعة لاقل من خمسة الخ» من الرواية.

و بعد ما تلونا عليك لم يبق الوثوق بكون

الرواية مشتملة على الذيل بل من المحتمل أن يكون من فتاوى الصّدوق رحمه اللّه، فلا يمكن عدها جزء الرواية، لأنّ بناء

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 82

العقلاء لم يكن في مثل هذه الموارد على الاخذ، فلا يمكن الحكم بمقتضى اصالة عدم الزيادة بأن الذيل جزء الرواية، لأنّ منشأ هذا الأصل هو بناء العقلاء و لم يكن هنا بناء العقلاء مع ما ذكرنا على ذلك.

هذا كله مع قطع النظر من أن الرواية ان كانت كذلك، فلازمها هو وجوب صلاة الجمعة بمجرد وجود السبعة بلا اشتراطه بالامام، فالرواية تصير معارضة قدمناه من الأخبار و الاجماع و السيرة على الاشتراط، فعلى هذا أيضا لا يمكن الاخذ بها. «1»

[ذكر رواية زرارة ثانيا و الكلام فيها]
اشارة

و منها رواية زرارة المتقدم ذكرها أيضا قال: حثنا ابو عبد اللّه عليه السّلام على صلاة الجمعة حتى ظننت انه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، أنما عنيت عندكم. «2»

وجه الاستدلال بها: انّه عليه السّلام حثّ على صلاة الجمعة و كان شدة حثه بمرتبة توهم السائل بأنّه عليه السّلام اراد أن يقيمها، فقال: نغدو عليك؟ فقال: لا، انما عنيت عندكم، يعني: يكون المقصود ان تقيموها عند انفسكم، و لا يلزم حضور الامام، فتدل الرواية على الاذن بانعقاد الجمعة و لو مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك.

و فيه أن في الرواية احتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون الحث و الترغيب لحضور صلاة العامة، فالرواية

______________________________

(1)- أقول: و لقد تقدم منى توجيه آخر للرواية عند تعرضنا لها سابقا، و مع هذا الوجه لا يمكن الاستشهاد بها لكلا الدعويين أعني نفي الاشتراط و ثبوت الاذن فراجع. (المقرّر).

(2)- الرواية 1 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة في الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص:

83

على هذا الاحتمال تدلّ على الحث على حضور صلاة جمعة العامة لرعاية التقية، و وقاية الشيعة من خطر مخالفيهم، فان كان المراد من الرواية هذا فلا ربط لها بالاذن على انعقاد صلاة الجمعة.

الاحتمال الثاني: انّه بعد كون صلاة الجمعة ممّا يتقوّم أمرها بصنفين: صنف يكون وظيفتهم الامامة في هذه الصّلاة، لانها لا تنعقد إلا بالامام حتى يقتدى به، و صنف يكون شأنهم المامومية لتقوّم انعقادها بوجود المأموم أيضا، و إلا لم تتحقق الجماعة فيها، لانّ الجماعة لم تتحقق إلّا بالامام و المأموم.

نقول: بأن الرواية تدلّ على الحث و الترغيب من حيث الثاني، يعني: حيث المامومية يعني يرغبهم الامام عليه السّلام، و يحثهم على أن يصيروا مأمومين في صلاة الجمعة، و يشتغلون بحفظ هذه الجهة، و ظن زرارة بأنّه عليه السّلام حثهم بالاقدام على ما هو وظيفتهم من المامومية من باب انّه عليه السّلام اراد أن يحضر لاقامة الجهة الاخرى يعني:

حيث الامامة و أن يقوم بالامر، فقال (نغدو عليك) فاجاب عليه السّلام لا اعنى: لا اريد أن تحضروا في صلاتي، انما عنيت عندكم.

فبعد كون الصدر على هذا تحريصا على حيث الماموميّة، فيكون المراد من الذيل بتناسب الصدر، هو انكم تصيرون مأمومين عندكم لا عندي، فالرواية غير متعرضة الا لحيث المامومية، و انجام هذه الوظيفة، و لا تعرض لها لحيث إمامة صلاة الجمعة و أن أمرها على أي كيفية كانت، فالحث على أن يصيروا مأمومين، و امّا صيرورتهم مأمومين في أي جمعة، و مع اي امام فالرواية غير متعرضة لذلك، فلا يستفاد على هذا الاحتمال الاذن من الرواية.

الاحتمال الثالث: أن يكون الحث و الترغيب في الرواية على أصل صلاة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 84

الجمعة، فبعد

كون صدرها تحريصا على أصل صلاة الجمعة، فالذيل أيضا ليس إلا ما حث عليه السّلام عليه في الصدر، فالمراد من قوله (انما عنيت عندكم) هو أن المقصود الحث على انعقاد صلاة الجمعة عند انفسكم بلا احتياج الى حضوري، و على هذا الاحتمال فلهم أن يقيموا هذه الصّلاة إما وجوبا أو جوازا بدون اشتراط حضور الامام، و على هذا لا يلزم أن يقال بوجوب صلاة الجمعة عليهم، بل لا مانع من أن يكون بنحو الجواز و صرف المشروعية حتى يناسب مع كون صلاة الجمعة احد فردي الواجب التخييري، و يكون فرده الآخر صلاة الظهر، و يقال: إن مع الامام يجب صلاة الجمعة معينا، فالامام شرط للوجوب و مع عدم حضور الامام يجوز انعقادها و لو انعقدت تسقط صلاة الظهر، و على هذا الاحتمال كان الامام عليه السّلام في مقام الافتاء، و افتى بمشروعية صلاة الجمعة او وجوبها حتى مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك.

[مع عدم ظهور الرواية للاحتمال الاول و الثانى فلا ظهور له فى الاحتمال الثالث أيضا]

إذا عرفت هذه الاحتمالات، فان لم يكن ظاهر الرواية مساعدا للاحتمال الاول أو الثاني، فلا اقل من عدم ظهورها في الاحتمال الثالث، مضافا الى أن الرواية لو كانت دالة على الافتاء- على الاحتمال الثالث- يستفاد منها مشروعية الجمعة و لو مع عدم الامام أو من نصبه لذلك، و الحال أن ظاهر كلام المجمعين هو الاجماع على كون أصل المشروعية مشروطا بالامام أو من نصبه لذلك، فمع هذا الاجماع كيف يمكن الالتزام بمشروعية صلاة الجمعة من رأس بدون حضور الامام أو من نصبه لذلك. «1»

______________________________

(1)- اقول: ان قلنا بان المستفاد من الرواية هو الاحتمال الثالث، و قدمنا الرواية على ما دل-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 85

و منها: ما رواه عبد الملك

عن ابي جعفر عليه السّلام (قال: قال: مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها اللّه، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: صلوا جماعة يعني صلاة الجمعة). «1»

و قد تعرضنا لها سابقا أيضا.

وجه الاستدلال: انّه بعد ما قال عليه السّلام: مثلك يهلك و لم يصل فريضة فرضها اللّه و قال عبد الملك: كيف أصنع؟ قال: صلوا جماعة يعني صلاة الجمعة، أمره عليه السّلام بانعقاد الجمعة، فيستفاد الأذن منها بأن تنعقد صلاة الجمعة حتى مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك.

________________________________________

بروجردى، آقا حسين طباطبايى، تبيان الصلاة، 8 جلد، گنج عرفان للطباعة و النشر، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تبيان الصلاة؛ ج 1، ص: 85

[لا يمكن ان ما ذكر فى رواية عبد الملك تمام الرواية و لم يسقط منها شي ء]

و فيه أولا: أن سياق الرواية حاك عن عدم كون كلام الامام عليه السّلام بدوا ما نقله الراوي بدون زيادة و نقيصة، أو بدون سبق كلام، أو بدون تناسب خارجي، بل متن الحديث يشهد بأن ما نقل مسبوق بكلام أو واقعة خارجية غير منقولة، لا انّه عليه السّلام

______________________________

على اشتراط صلاة الجمعة بالامام او من نصبه لذلك، فلا بد من أن يقال بالوجوب التعييني مطلقا، لأنّ الحثّ كان على الجمعة المشروعة، و وجوب صلاة الجمعة المشروعة مسلم في الجملة، و انما الكلام كان في اشتراط وجوبها بالامام و عدمه، و بعد عدم الاشتراط بناء على الاخذ بالاحتمال الثالث في الرواية، فلا بد من ان يكون انعقادها واجبا بالوجوب التعييني، و لا معنى للوجوب التخييري، و قوله (حثنا) و ان كان بمادته قابل للحمل على الاستحباب و الترغيب على الامور المستحبة، لكن المورد غير قابل لذلك، لأنّ الحث على صلاة الجمعة و هي واجبة ضرورة في الجملة، و بعد عدم الاشتراط بالامام على

فرض تقديم هذه الرواية فلم يبق الا وجوب اصل صلاة الجمعة، و الحث على هذا لا يكون الا عليها فتامل، و لا يبعد كون اقوى الاحتمالات هو الاحتمال الاول. (المقرّر).

(1)- الرواية 2 من الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة في الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 86

تلكم بهذا الكلام بدوا بمجرد رؤية عبد الملك، بأنّه قال له بمجرد أن راه (مثلك يهلك و لم يصل فريضة فرضها اللّه).

و كيف يكون عبد الملك- مع جلالته المشار به بقوله (مثلك يهلك) يعني: أنت مع شأنك و مقامك تهلك- تاركا لفريضة فرضها اللّه، و ما كان آتيا بها أصلا، فهذا مؤيد على أن هذا الكلام مسبوق بسابقة غير منقولة، و لا ندري ما هي السابقة كانت في البين.

فبعد هذا الاحتمال المؤيد بسياق الرواية، لم يحصل لنا الجزم بكون ما نقل من الرواية تمام الكلام الواقع بين الامام عليه السّلام و بين السائل بلا سبق أمر خارجي، أو كلام آخر، بل يمكن أن يكون هذا الكلام مسبوقا بامر آخر لو وصل إلينا نستكشف أمرا آخرا من الرواية.

و ثانيا: ما قلنا سابقا من كون الرواية قابلة لكونها صادرة لأنّ يراعي الراوي التقية يعنى: يحضر في جماعة العامة، و لا يترك ذلك كلية حتى يصير سببا للفساد و هلاكته، كما أن ما قلنا في الوجه الأوّل من احتمال سبق أمر خارجي في البين، و هو صار منشأ تشدّد الامام عليه السّلام، و أن يقول (مثلك يهلك) هو هذا اعني: إما علمه عليه السّلام بأن عبد الملك لا يحضر في جماعة العامة، أو كان في المجلس واحد منهم و عنده قال عليه السّلام بعبد الملك ما قاله حتى يرى الشخص المخالف الحاضر بأنّه

عليه السّلام يأمر مواليه بالحضور في جماعتهم و جمعتهم.

و ثالثا: هذا على تقدير استبصار عبد الملك و وروده في منهج الحق، و امّا على تقدير عدمه، فقال ذلك بشخص من العامة، و تكلم معه، و أمره موافقا لمذهبه رعاية لبعض المصالح.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 87

[خطاب الامام عليه السّلام بعبد الملك لمراعاته التقية لا الاذن]

و رابعا: أن ما في ذيل الرواية «يعني صلوا الجمعة» بعد قوله «صلوا جماعة» ليس من كلام الامام، لأنّه لو كان كلامه عليه السّلام فمقتضى القواعد الادبية أن يقول «اعني صلاة الجمعة» لا أن يقول «يعني صلاة الجمعة» لأنّ المتكلم لو قصد بصلوة الجماعة صلاة الجمعة، كان اللازم أن يقول «اعني» لا «يعني»، فالذيل قابل لأنّ يكون من عبد الملك راوي الرواية، و قابل لأنّ يكون من كلام واحد من رواة الرواية غير عبد الملك، فبعد عدم كون ذلك من كلام الامام، بل عدم معلومية كونه من كلام عبد الملك، فلا يمكن أن يقال بكون الذيل أمر بصلوة الجمعة، بل نبقى نحن و ما بقى من الرواية، و غاية مدلولها، مع قطع النظر عما قلنا، هو الأمر بصلوة الجماعة، و هذا الأمر محتمل لأنّ يكون الأمر بالحضور في جماعة العامة، و كان المراد من الفريضة في الرواية الفريضة الّتي يفعلها تقية، و انك لم لم تراع التقية، و هذا الوجه و ان كان بعيدا، و لا يبعد أن يكون المراد من الأمر بالصّلاة الأمر بصلوة الجمعة و لو مع عدم ذيل الرواية، و لكن هذا الاحتمال أيضا من محتملات الرواية، و لا ظهور لها في الاذن بصلوة الجمعة و لو مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك.

هذا تمام الكلام في الأخبار الّتي يمكن أن يتمسّك بها للاذن على

انعقاد الجمعة في حال عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك، و قد ثبت لك ممّا بينا لك في هذا المقام عدم ظهور للروايات في الاذن المطلق للجميع بحيث كان لكل سبعة إقامتها، و نحن تابع لدليل ظاهر في المدعى و لم نجد ذلك بين الاخبار اصلا.

و بعد ما تبين لك عدم ثبوت الوجوب التعييني لصلاة الجمعة مطلقا حتى بدون حضور الامام أو من نصبه لذلك من الادلة، بل أوضحنا خلافه و بينا لك كون الاشتراط مسلم بالأدلّة، و اثبتنا بعد ذلك عدم ورود الاذن العام من ناحية من بيده

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 88

أمر صلاة الجمعة اعني: الامام باقامتها للناس بطريق العموم، لعدم قيام دليل على ذلك.

هل يمكن أن يقال: بأن المستفاد اجمالا من بعض الأخبار المذكورة، هو تمكن الشيعة من صلاة الجمعة الصغيرة في زمان عدم تمكنهم من انعقاد صلاة الجمعة الكبيرة، لاجل عدم بسط يد الأئمة عليهم السّلام و ان لم ندر بكون تمكنهم الشرعي على انعقاد صلاة الجمعة باي نحو كان إمّا من باب كون واحد منهم منصوبا من قبلهم عليهم السّلام في الخفاء، أو اذن لجمع مخصوص في ذلك، أو اذن لمطلق الشيعة، فان لم نعلم هذه الخصوصيات من أخبار الباب، لكن أجماله معلوم كما يشعر بذلك رواية محمد بن مسلم «1» المشتملة على بيان الخطبتين، لما ورد من الأمر لمحمد بن مسلم بأن (تقول كذا) و ما صدرت الرواية تقية للامر فيها بالدعاء لائمتك حتى تنتهي الى صاحبك، و رواية عمر بن حنظلة «2» الّتي يستفاد منها أن المعصوم عليه السّلام جعله رسولا لأنّ يبلغ كون صلاة الجمعة مشتملة على القنوتين: قنوت في الركعة الأولى و قنوت في

الركعة الثانية، و هذه الرواية أيضا لم تكن صادرة على وجه التقية لأنّ اعتبار القنوت في الركعة الأولى مضافا الى القنوت المعتبر في الركعة الثانية للصّلاة الجمعة من متفردات الامامية، و روايات القرى فانّه هل يمكن استشعار كون صلاة الجمعة مشروعة لهم منها.

[لا يمكن الجزم بورود الاذن من المعصومين عليهم السّلام]

و لكن بعد هذه البيانات، كما قلنا سابقا، لا يمكن الجزم بورود الاذن من قبلهم عليهم السّلام و عدم معلومية ذلك، فاذا نقول: لم نجد دليلا يمكن الاتكال عليه على ورود

______________________________

(1)- الكافي، ج 3، ص 422، ح 6.

(2)- الرواية 5 من الباب 5 من أبواب استحباب القنوت فى الركعة الاولى من الجمعة.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 89

الاذن منهم عليهم السّلام باقامتها و لو مع عدم حضور الامام أو من نصبه لذلك. «1»

______________________________

(1)- أقول: إن ما افاده- مد ظله- من امكان استفادة مشروعية صلاة جمعة صغيرة على الشيعة فى الجملة من بعض الأخبار، ممّا لا دليل عليه، كما أنّه لم يجزم بذلك، و أشرنا به في ذيل الكلام، لأنّ ما استظهر منه- مد ظله- ذلك لم يمكن خاليا عن الإشكال.

أما رواية محمد بن مسلم المشتملة على الخطبتين، فلما قلنا من اضطراب متن الحديث، و انه عليه السّلام يمكن أن يكون، في هذا الكلام، في مقام بيان الحكم، و لا مانع من أن يقول بصورة الأمر و الخطاب، و صرف بيان الأحكام ليس شاهدا على انّها وقعت مورد العمل، كما أفاده- مد ظله- و ايده بذكر رواية الواردة فيمن يمنعه الزحام من أن يصل بسجود الامام في صلاة الجمعة، و انّه مع عدم اتفاق صلاة الجمعة للشيعة مع قلة عددهم بنحو يمنع كثرة الجمعية من وصول الماموم بسجود الامام، و لكن مع ذلك

بيّن حكمه.

فلا مجال لأنّ يقال: بأنّه لو لم يكن في البين صلاة جمعة فما معنى تعليم خطبتها.

و امّا رواية عمر بن حنظلة فنقول: أما ما افاده (مد ظله) من عدم جريان احتمال كون الرواية صادرة على وجه التقية، لاشتمالها على القنوتين فنقول: إن ذلك أيضا قابل للدفع، فان القنوت حيث لا يعتبر فيه رفع اليد، فيمكن اتيانه و لو عند المخالفين بحيث لا يلتفتون به، بأن يأتى بذكر القنوت و لا ترفع اليد عندهم، فهم مع كونهم مأمورين بحضور جمعة العامة للتقية، فيعلون هذا الحكم الواقعي اعني: القنوت في ركعتها الأولى، و يأتون به لعدم مانع لهم من العمل بهذا الحكم، فالرواية ليست مشعرة على كون صلاة الجمعة مشروعة لهم غير ما لا بد لهم دائما أو بعضا من الحضور عندها اعني: صلاة جمعة المخالفين.

مضافا الى أن هذه الرواية لا تدلّ الا على بيان حكم آخر، و هو القنوت، و امّا كون هذا الحكم من باب كون جمعة لهم خارجا، و بيان آداب عملهم الخارجي، فلا دلالة لها، و مع قطع النظر عن ذلك نقول: بأن الرواية لو لم تكن شاهدا على الخلاف لم تكن دليلا للمطلب، لأنّ المعصوم عليه السّلام اخذ رسولا لأنّ ينبه الشيعة بحكم من احكام صلاة الجمعة يكون على خلاف العامة، فلو كانت صلاة الجمعة غير مشروطة بالامام، أو اذن لشيعتهم و الحال أن وضعها الخارجى على ذلك، فكيف لم ينبه الشيعة و لم يبينوا لهم، فهذا شاهد على عدم كون الأمر كذلك.-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 90

فظهر لك ممّا مرّ عدم ثبوت ما ادعاء الشّيخ رحمه اللّه في ذيل كلامه في الخلاف من ورود الاذن بانعقاد صلاة الجمعة مع عدم

حضور الإمام أو من نصبه لذلك تمسكا بالرواية الواردة في القرية.

[هل يجوز انعقادها للفقيه بالخصوص أولا؟]

اشارة

ثمّ بعد ذلك يقع الكلام في جهة اخرى، و هي انّه هل يجوز انعقاد صلاة الجمعة للفقيه بالخصوص أولا؟ و بعبارة اخرى هل ثبت اذن للفقيه أو هل نصب لذلك أم لا؟ و قد قلنا: بأن الشّيخ رحمه اللّه في النهاية في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قال- في ضمن ما يجوز للفقهاء- بجواز انعقاد صلاة الجمعة لهم.

و يظهر ذلك من الشهيد رحمه اللّه في الدروس بعنوان الاستحباب اعني: يستحبّ لهم انعقادها، لكن من كلام المفيد رحمه اللّه في المقنعة، و من كلام تلميذه- اعنى: سلار بن عبد

______________________________

و امّا روايات القرى فقد مضى الكلام فيها و عدم دلالتها على ذلك، و يبعّد كون صلاة الجمعة صغيرة خارجا بين الشيعة أمران.

الأول: انّه لو كانت صلاة الجمعة مشروعة للشيعة بهذه الكيفية، فيقيمونها البتة مع ما ورد من الحث و الترغيب عليها، فمع وجود الجواسيس من ناحية خلفاء الجور و المفسدين، و عمالهم في كل بلد و قرية بحيث يكشفون خصوصيات الائمة عليهم السّلام و مواليهم و وضعهم، حتى لو أعطي بهم درهما أو دينارا، لأخبار به خلفاء الجور، كيف لا يلتفتون الى صلاة جمعتهم، و انهم اقاموا صلاة في قبال صلاتهم و لو كانت صلاتهم مخفية، و لو التفتوا لذلك لعابتهم و شددوا عليهم الأمر، و يذكرون في مقام ايذائهم من جملة اعمالهم المخالفة لهم، فهذا دليل على عدم كون الأمر كذلك.

الثاني: انّه لو أمرت الشيعة باقامة صلاة جمعة صغيرة من قبلهم، و يقيمونها فكيف صارت مخفية، و لم يبلغ الأمر إلينا مع كون مقتضى القاعدة بلوغ ذلك بنا يدا بيد و إن

كانت مخفية، و الحال انّه لا عين و لا اثر من ذلك بين الشيعة، فهذا أيضا شاهد على عدم مشروعية هذا بهذا النحو، و بعد ما قلت و عرضت بمحضره الشريف ما قلت من الايراد، قبل منى تقريبا و قال (مد ظله) بأن ذلك كان من باب الاحتمال. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 91

العزيز الديلمى رحمه اللّه- في المراسم لا يظهر ذلك، لانّهما بعد ما عدّا ما هو من شئون الفقهاء حتى عدّا صلاة العيد منه لم يعدّا صلاة الجمعة من ذلك.

فكون انعقادها للفقهاء و من شئونهم بنحو الجواز أو الاستحباب لم يظهر الا من الشيخ رحمه اللّه و من الشهيد رحمه اللّه، فنرجع الكلام على كل حال في هذا.

و نقول مقدمة: بأن الكلام في باب ولاية الحاكم اعني: الفقيه يقع في مقامين:

الاوّل: في الكبرى.

و الثاني: في الصغرى، و قد خلط كثيرا ما كل واحد من المقامين بالآخر.

المقام الاول: يقع الكلام في انّه من الأمور أمور ليس أمرها راجعا الى الاشخاص، و لا يكونون صالحين للاقدام بها و رتقها و فتقها، و لم يكن أمرها بيدهم حتى يصنعون فيها ما شاءوا، و هذه الأمور راجعة الى كل من يكون قيّما بأمر الناس بحيث لو لم تكن دخالة قيم الأمر، و وضعها في موضعها، تعوق هذه الأمور، و يساق أمرها الى التعطيل نظير أمر القصّر و الغيّب، و رفع التخاصم بين الناس، و الدفاع عن الملة و غير ذلك، و لو لا دخالة للسائس بالامر و القيم و زعيم الامة لساق أمر الامة و الرعية الى النكال، و الاختلال.

و ليس هذا الأمر مخصوصا بدين الاسلام، بل و لا مخصوصا بذوي الاديان، بل نرى أن هذه الأمور

في كل ملة من الملل ليست من شان كل واحد من الناس الدخالة فيها، بل يكون أمرها راجعا الى من بيده زمام امورهم، و من هو قيم عندهم، أو رئيسهم، أو سلطانهم، أو سائسهم، و هو يقيم هذه الأمور و امثالها.

[من وضع تشريع الاحكام و عدم جواز تعطيلها يمكن ان يقال بعدم رضى الشارع بتركها و يجب على الفقيه اقامتها]

فبعد كون الأمر كذلك عند كل ملة من الملل سواء كانوا من ذوي

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 92

الاديان أولا:

نقول: بأن شرع الاسلام حيث تكون شريعة تامة و روعي فيه كل الجهات بحيث لم يبق شي ء من الأمور الدنيوية و الاخروية، سياسية و غير سياسية إلا و بيّن ما يحتاج إليه البشر و لم يعطّل أمرهم من الأمور الدنيوية و الاخروية في شأن من الشئون.

و ليس شرع الاسلام مثل ساير الشرائع الّتي لم يكن فيها ما يرفع احتياج البشر من كل الجهات، كما ترى من شرع المسيح فليس فيه، كما ترى، في أنا جيلهم إلّا بعض الأمور الاخلاقية مع ما فيها من الخرافات، بحيث ليس لهم قوانين في جهاتهم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و غير ذلك.

بل إن مذهبنا جاء بجميع ما هو طريق سعادة البشر في الدنيا و الآخرة، و هو دين امتزجت السياسية بالعبادة، و العبادة بالسياسة، و لذا ترى أن بعض احكامها في عين السياسة عبادة، و في عين العبادة سياسة كما ترى في فريضة الحج، فهي من افضل القربات، و وسيلة الانقطاع من الخلق الى الخالق، و طريق القرب إليه، و في عين هذا الحال من أعظم السياسات لاجتماع المسلمين في محل مخصوص بنظم مخصوص و ترتيب مخصوص، و يظهر بذلك عظمة الاسلام، و فرط توجه المسلمين الى اللّه فشرّع الاسلام أمورا مخصوصة، مع قطع النظر عما كان في ساير

الامم، مربوطة بالسياسة و العبادة كالحج و العيدين.

و بعد كون شرع الاسلام ناظرا الى كل الأمور من جهات الإمارة و القضاوة و أمور القصّر و الغيّب و حتى إمارة الحاج و ساير الأمور، و كل هذه الأمور من الأمور الّتي ليست ادارتها و القيام بها شأن كل شخص من الاشخاص، و ليست من

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 93

وظائفهم، فلا بدّ من أن يجعل لهذه الأمور من يقوم بها، و يجرى هذه الأمور مجراها مع كثرة العناية بها، و احتياج الاجتماع الديني إليها، و لذا ترى أن بناء المسلمين كان من الأوّل بانهم إذا فتحوا قارة، فبمجرد ورودهم بنوا مسجدا و دار الإمارة، و كانا هما معا حتى يقيمون الصّلاة في المسجد و تقام هذه الأمور في دار الامارة بيد من هو الامير و القيّم بالامر، كما ترى أن قائد جوهر بمجرد فتحه المصر بنى مسجدا و دار الإمارة في القاهرة، و هذا البلد من بنائه و محل المسجد فعلا يكون جامع الازهر.

و الغرض أنّ الاسلام ناظر الى هذه الجهات، و جعل في الشرع لها شخصية مناسبة لها، و لذا كان في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من يقوم بهذه الأمور في غير المدينة من قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و امّا بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فبعد القاء المنافقين الخلاف في الدين و صار المسلمون فرقتين: فرقة على الضلالة، و فرقة على طريق السعادة، فالطائفة الاولى اعني: العامة قالوا: بأنّ أمر هذه الأمور يكون بيد الخليفة، و من هو قيّم الأمور، و الفرقة الحقة قالوا: بأنّ الأمور لا بد و أن تكون بيد

خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فالاختلاف في الصغرى، لانا نقول: بأن الخليفة هو علي ابن أبي طالب عليه السّلام و اولاده المعصومين عليهم السّلام، و هم مخالفون في ذلك، و على كل حال فهم يقولون: بأن اقامة هذه الأمور العامّة و وضعها في موضعها بيد الخليفة، و كل من ينصبه الخليفة لذلك، و امّا نحن جماعة الشيعة فحيث أن ائمتنا غير امير المؤمنين عليه السّلام في مدة قليلة لم يكونوا

مبسوطي اليد، ففي زمانهم مهما امكن لهم التصرف في هذه الجهات و وضعها في موضعها عملوا بوظيفتهم، و تصرفوا فيها، و قاموا بشئونها.

و امّا في زمان الغيبة، فبعد ما قلنا من احتياج الامّة، و حفظ جهاتهم برعاية هذه الأمور، و عدم جواز تعطيلها، لانها من شئون الدين و قوام أمر المسلمين، و عدم

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 94

كونها وظيفة كل احد من الآحاد، فكيف يمكن أن لا يصدر من المعصومين عليهم السّلام ما هو الموقف، و أن الأمر في هذه الأمور بيد أي شخص كان، و من هو الصالح لتصديها.

فهل يمكن أنهم لم يعينوا للقضاوة و الحكومة بين الناس لرفع التخاصم أحدا؟

و هل سكتوا عن ذكر شخصية صالحة للقيام بأمور الغيّب و القصّر؟ و هل تركوا تكليف الشيعة في انّه إذا توجه إليهم الخصم، فالى من يكون أمر الدفاع و التجهيز و غير ذلك؟ كلا، فنكشف انهم بينوا من هو المرجع في كل جهة محتاجة إليها، لا في كل جهة و لو لم تكن الشيعة محتاجة لها، أولا يمكن لهم من باب الخوف أو ضعفهم في قبال المخالفين اقامتها، بل لا بد لهم من تعيين مرجع يحتاج إليه مواليهم

و جماعة الشيعة بحيث لو لم يكن مرجع فيهم لاختلّ أمورهم، فلا بدّ من أن يصدر من ناحيتهم من هو المرجع و القيّم لهذه الأمور.

[فبعد لزوم قيم لها فالقيم هو الفقيه]

إذا عرفت في هذا المقام لزوم وجود قيّم لاقامة هذه الأمور بطور المسلم و المقطوع، فثبت الكبرى و هو أن الأمر في هذه الأمور بيد قيّم الأمر، فنتكلم بعد ذلك في المقام الثاني اعني: من هو القيم و المرجع، و الذي بيده اقامة هذه الأمور فنقول:

المقام الثاني: بعد ما ثبت أن أمر هذه الأمور يكون بيد قيم المسلمين، فمن هو القيّم عند الشيعة، فنقول: بأنّه من المسلم عدم جعل منصب لغير الفقهاء من قبلهم عليهم السّلام، لانا بعد المراجعة في الآثار و الأخبار لم نر أنهم عليه السّلام فوضوا أمر هذه الأمور في مورد الى غير الفقهاء، مثلا في القصّر بعد عدم وجود الولي لم يوكل، أمر الصغار الى شخص أو طائفة غير الفقهاء، فنرى عدم جعل منصب، و ايكال أمر من هذه الأمور العامة الى أحد غير الفقهاء، و الحال أنهم عليه السّلام لو فوضوا الأمر الى غير الفقهاء لوصل إلينا، و لم يصر محجوبا عنا، ثمّ نرى الارجاع من قبلهم عليه السّلام الى الفقهاء

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 95

في بعض الموارد مثل القضاء و الفتوى و أمر الصغار.

فنقول: بعد ما ثبت لك من لزوم قيّم لهذه الأمور العامة في المقام الأوّل.

فإمّا أن يقال بعدم تعيين قيم لاقامة هذه الأمور من ناحيتهم عليه السّلام، فهو ممّا لا يمكن الالتزام به، لأنّهم كيف يعطّلون أمر الناس.

و إمّا أن يعيّنوا عليهم السّلام لهذه الأمور مرجعا صالحا و شخصية مخصوصة و في هذه الصورة.

فإمّا أن يقال: بأنّهم فوضوا الامر الى شخص

أو أشخاص غير الفقيه فهو مقطوع العدم، لعدم عين، و لا اثر من ذلك في الآثار و الأخبار.

فلم يبق إلّا كون المرجع و قيّم الأمر في هذه الأمور من قبلهم عليهم السّلام الفقيه، فالمتيقن ممّن له اهلية الدخالة في هذه الأمور هو الفقيه، لأنه المتعين من قبلهم للقيام لهذه الجهات و المنصوب من ناحيتهم لوضع هذه الأمور في موضعها.

فعلى هذا لو لم يقم دليل خاص على نصب الفقيه في مورد و أن أمره بيده، نقول: بكون الأمر بيده لما استفدنا بنحو الكلي من كون أمر هذه الأمور العامة في زمان غيبة الامام عليه السّلام بيد الفقيه.

فلو لم تكن مقبولة عمر بن حنظلة «1» و لا رواية أبي خديجة «2» و لا غيرهما نقول: بكون أمر مثل القضاء و أمر الغيّب و القصّر، و كل ما لا يمكن تركه، و يلزم القيام بامره، راجعا الى الفقيه.

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 11 من أبواب صفات القاضى من الوسائل.

(2)- الرواية 5 من الباب 1 من أبواب صفات القاضى من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 96

اذا عرفت ذلك فهل يمكن أن يقال بأن أمر صلاة الجمعة أيضا من الأمور أمرها راجع الى الفقيه، و انه يجب عليه اقامتها و لا يختل بامرها أولا؟

[القول بان ولايته تقتضى الدخالة حتى فى مثل صلاة الجمعة مشكل]

فنقول: إنه و ان ذكرنا وجها لطيفا لاثبات ولاية الفقيه، و لكن الالتزام بأن ولايته تقتضي الدخالة حتى في مثل صلاة الجمعة، مشكل فانها ليست من الأمور الّتي لا يجوز تركها، و يضر الاخلال بامرها، و لم يقع اخلال في الجهات الدينية من عدم انعقادها، فعلى هذا كون اقامة صلاة الجمعة من مناصب الفقيه بحيث يكون الفقيه، من نصبه الامام عليه السّلام لذلك بالاذن العام، مشكل

و لم نقل به.

ثمّ إن مع قطع النظر عما قلنا في وجه ولاية الفقيه نقول: بأن مقبولة عمر بن حنظلة و ان وردت في مورد سؤال السائل عن الدين و الميراث، إلا أن المستفاد منها بعد جعل الفقيه بمقتضى الرواية حاكما على الناس، و اعطاء هذا المنصب له، فله شئون الحكومة، و ما يكون أمره راجعا الى الحاكم خصوصا مع التصريح في الرواية بذلك بقوله «و قد جعلته حاكما عليكم»، فالمستفاد من ذلك هو جعل الحكومة المطلقة، لأنّه لم يقل (جعلته حاكما عليكم في مورد رفع الخصومة).

و لا مجال لأنّ يقال: بأنّ الامام عليه السّلام جعل الفقيه حاكما في خصوص رفع الخصومات، فكيف يتعدى الى غير هذا المورد لانّا نقول:

أمّا أولا: لأنّ البناء إن كان على الجمود و بخصوص المورد، فلازمه هو كون الفقيه في خصوص رفع الخصومة في خصوص الدين و الميراث، و لا يمكن الالتزام بذلك، و إن تتعدى عن المورد و قيل بعدم الفرق بين الدين و الميراث و بين غيرهما من حيث رفع التخاصم، و جعل الحكومة، فكذلك يقال بعدم الفرق بين رفع التخاصم و غيره خصوصا مع ما قلنا من أن جعل الحكومة مقتضيا لكون أمور الحكومة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 97

راجعا الى من نصب للحكومة.

و ثانيا: ما ورد في الرواية في تعيين الولاية لعدول المؤمنين، يستفاد منها أن السائل فرض موردا لم يكن القاضي في البين، و أرجع المعصوم عليه السّلام في فرض عدم القاضي أمر الصغير الى أحد من الناس كان موثوقا به، فمن هذا يستفاد أن هذه الأمور الّتي لا يمكن الاخلال بها، و لا بدّ من القيام بها أمرها أولا راجع الى الفقيه من قبلهم

عليهم السّلام، فهذه الرواية أيضا دليل مستقل على ولاية الفقيه.

[لا دليل على كون اقامتها من وظائف الفقيه]

ثمّ بعد ذلك هل يمكن استفادة كون أمر صلاة الجمعة أيضا من الأمور تكون راجعة الى الحاكم حتى يقال: بانّ بعد ما دلت المقبولة على كون الفقيه حاكما: فله اقامة هذه الصّلاة، أو لا؟

فنقول: بأن كون اقامتها من وظائفه ممّا لا دليل عليه:

أمّا أولا: فلانّه كما قلنا استفادة الحكومة المطلقة للفقيه، حتى في الأمور لا يوجب عدم القيام بامرها اختلال في أمور الناس، مشكل إذا غاية ما يقال: إن الفقيه منصوب لأنّ يقيم أمورا لا يمكن تركها و تعطيلها، بل لا بدّ من اقامتها و ليست صلاة الجمعة من هذا القبيل.

و ثانيا: أن بعض الأمور غير قابله لجعل أشخاص متعددة لها و القيام بأمرها، بل ان كانت العناية بأمرها فلا بدّ من ايكال أمرها الى شخص خاص، و لا يناسب جعل الولاية العامة لها.

و من هذه الأمور صلاة الجمعة، فان أمرها إن حول الى الجماعة لا الى شخص خاص، يقع الاختلاف و التنازع و التشاجر كثيرا ما، فيريد فقيه انعقادها في محلة و فقيه آخر في محلة اخرى، و يحصل الاختلاف بين الناس أيضا، و كيف

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 98

تكليفهم، فهل يذهبون الى هذا المسجد أو الى ذلك، و ربما يقع القتل و التشاح العظيم، فعلى هذا لا يمكن ايكال أمرها الى عنوان الفقيه بحيث يكون لكل واحد منهم الدخالة فيها مع كون انظارهم مختلفة، و هذا من مبعدات المطلب، و دليل على عدم شمول منصب الفقيه لامر صلاة الجمعة.

[لا يقاسى أمر القصر و الغيب بصلاة الجمعة لتكرار أمرها فى كل جمعة]

و لا يقال: ان ما قلت من الإشكال جار في بعض أمور اخرى الراجع أمرها الى الفقيه كأمر الصغار، فربما يريد فقيه أن يجعل زيدا مثلا قيما لصغير، و فقيه آخر يريد أن

ينصب عمروا قيما، فيقع التشاجر و الاختلاف.

لانا نقول: إن في أمر الصغير إذا صار أحد قيما بجعل فقيه فليس للفقيه الآخر جعل شخص آخر، و لا يتفق مورد يجعل الفقيهان شخصين قيمين عرضا، حتى يقع الخلاف بخلاف صلاة الجمعة، فان الخلاف فيها يتفق كثيرا ما لانها تقام في كل جمعة و في كل بلد، و وقتها معلوم، و يمكن ورود النظرين المخالفين فيها غالبا عرضا مع كثرة الفقهاء، و اختلاف انظارهم بحسب ما يرون من المصالح، فان اراد اللّه تعالى اقامتها فينصب لامرها من قبلهم عليهم السّلام شخصا خاصا، فكون أمرها راجعا الى الفقيه لا دليل عليه.

اذا عرفت ما بينا لك في مسئلة صلاة الجمعة ظهر لك ما هو الحق فيها لما بيناه مما يستفاد من الآية الشريفة، و الأخبار الواردة في الباب، و الاجماع و وضعها الخارجي، فقد ثبت ممّا مرّ عدم دلالة الآية الشريفة و كذا أخبار الباب على كون صلاة الجمعة واجبة بالوجوب المطلق بلا اشتراط وجوبها بالامام أو من نصبه لذلك، لأنّ الآية لم تتعرض الا لوجوب السعي الى الصّلاة الواقعة في الخارج، و الامر فيها أمر بالسعي الى الصّلاة المعهودة، و أخبار الباب بعضها ليس إلا في مقام

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 99

بيان تشريع أصل وجوب صلاة الجمعة، و بعضها يدلّ على وجوبها مع الامام.

[في ذكر حاصل المطالب في جهات ثلاث]

فنقول: إن حاصل ما بينا في المسألة واقع في جهات ثلاثة:

الجهة الاولى: في انّها واجبة بالوجوب المطلق بمعنى عدم اشتراطه بالامام الأصل أو من نصبه لذلك، او ليست كذلك، فقد قدمنا الكلام فيها، و أن الآية و الأخبار غير دالة على الوجوب المطلق، و أن لسان الآية و بعض الأخبار هو الأمر بوجوب السعي

و الحضور في فرض انعقاد صلاة الجمعة المعهودة.

و بعضها يدلّ على وجوبها مع الامام، و الامام قابل بحسب الاحتمال يكون امام الاصل، و قابل لأنّ يكون أعمّ منه و من غيره، و الاحتمال الأوّل إن لم يكن اقوى فلا اقل من عدم ترجيح للاحتمال الثاني، و ذكرنا المؤيدات و الشواهد على أقوائية الاحتمال الاول، و بعض الأخبار تدلّ بالصراحة او تلويحا على اشتراطها بالامام الأصل، و قد أمضينا الكلام فيه، مضافا الى بعض الروايات الاخرى الدالة على ذلك.

[في ذكر روايات الاشعثيات و خبر دعائم الاسلام و النبويات]

منها ما نقل في الاشعثيات «1» أن الجمعة و الحكومة لامام المسلمين» و هذه الرواية احدى الروايات من الف رواية نقلها محمد بن محمد بن الاشعث الكوفي عن موسى بن اسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و هذه الروايات تسمى بالاشعثيات تارة لأنّ راويها محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، و تسمى بالجعفريات تارة لأنّ جعفر بن محمد عليه السلام رواها عن أبيه عن آبائه عن النبي صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم، فعلى هذا ما قاله الحاج آقا

______________________________

(1)- الاشعثيات ص 42

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 100

رضا الهمداني رحمه اللّه «1» في صلاته بأن هذه الرواية مرسلة ممّا لا وجه، لما قلنا من كونها مسندة و ذكرنا سندها، و الرواية معتبرة من حيث السند لأنّ للشيخ رحمه اللّه و كذا للنجاشى رحمه اللّه طريق إليه و كذا صاحب تاريخ بغداد، فعلى هذا لا اشكال في اعتبار سندها.

و مدلولها هو كون صلاة الجمعة مثل الحكومة من مناصب امام المسلمين، فتفيد الاشتراط، و مثلها بعض الروايات الاخرى المذكورة في مصباح الفقيه «2» اعني صلاة الهمداني رحمه

اللّه أيضا.

و منها الخبر المروي عن دعائم الاسلام عن علي عليه السّلام انّه قال لا يصلح الحكم و لا الحدود، و لا الجمعة إلا للامام أو من يقيمه الامام. «3»

و منها ما نقل عن رسالة الفاضل بن عصفور مرسلا عنهم عليهم السّلام «أن الجمعة لنا و الجماعة لشيعتنا» و كذا روي عنهم «لنا الخمس و لنا الانفال و لنا الجمعة و لنا صفو المال». «4»

و منها النبوي «أربع الى الولاة الفي ء و الحدود و الجمعة و الصدقات». «5»

و منها نبوي آخر «أن الجمعة و الحكومة لامام المسلمين» فيستفاد منها أن

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 438.

(2)- مصباح الفقيه، ص 438.

(3)- مصباح الفقيه، ص 438.

(4)- مصباح الفقيه، ص 438.

(5)- مصباح الفقيه، ص 438.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 101

صلاة الجمعة مشروطة بحضور الامام أو من يقيمه الامام. «1»

[في ذكر النكتة اللطيفة]

و النكتة اللطيفة الّتي تعرضنا لها في هذه المسألة، هي.

أولا: أن الآية الواردة في الباب المتوهمة دلالتها على الوجوب التعيينى مطلقا، بعد امعان النظر فيها و بسط الكلام كما ينبغي في اطرافها، ليست متعرضة إلا لوظيفة المأموم، و ان مع فرض وجود الامام و اجتماع العدد، و عدم كونه من المستثنيات، يجب السعي و الحضور في صلاة الجمعة، لما قلنا من ان الآية، و كذا الروايات ظاهرها أمر الناس بالسعي مع فرض وجود الامام و انعقاد صلاة الجمعة، أو ظاهرها وجوب الانعقاد و الحضور لذلك عليهم مع فرض وجود الإمام يصيروا مأمومين.

و لم يبين في الآية و لا في واحد من الروايات، وظيفة الامام، و انه متى يجب عليه الانعقاد، و هل هو واجب عليه اصلا أولا، فالآية و الروايات غير متعرضة هو أصل كيفية وجوب الانعقاد، و ان أصل

انعقادها واجب مشروط أو مطلق، فعلى هذا بعد عدم التعرض لذلك لا يستفاد من الأخبار بأن ما هو وضع الانعقاد و في أى صورة تنعقد هذه الصّلاة، بل غاية ما في الباب هو وجوب الحضور و السعي في فرض الانعقاد، و أمّا متى يحصل هذا الفرض، و في اى حال و على أي كيفية فلا تعرض لها في ما ذكرنا من الآية و الأخبار، لانّها لم تكن متعرضة الّا لحال الماموم.

و ثانيا: على ما اوردنا في المسألة و أمضينا البحث و خرجنا منها و تكلمنا في

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 438.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 102

اطراف الآية و الروايات، ظهر لك ان أصل وجوب صلاة الجمعة غير ثابت مع عدم الشرط، بل أصل وجوبها ما ثبت الّا مع امام الأصل أو من نصبه لذلك، و ما استظهر من الآية و لا الروايات وجوبها مطلقا حتى نحتاج في اثبات اشتراط وجوبها بالامام، الى الدليل بحيث لو لم يكن لنا دليل على اعتبار امام الأصل في وجوبها نقع في المخمصة، و يقال: بأن أصل الوجوب ثابت و عليكم باثبات الشرط، بل على ما بينّا و هو من لطائف ما حققنا، هو أن القدر المتيقّن من وجوبها هو وجوبها مع الامام أو من نصبه لذلك، و ما ثبت أزيد من ذلك، فعلى مدعي الوجوب بنحو المطلق أن يقيم الدليل على مدعاه، فنحن غير محتاجين في دعوانا و هو وجوبها المشروط الى الدليل، فلو شككنا في وجوبها في غير مورد حصول الشرط، و انها هل تكون مشروعة مع عدم الشرط أولا، فنحكم باصالة عدم المشروعية عدم مشروعيتها مع عدم الشرط، لأنّ المتيقن من مقدار مشروعيتها هو مع حضور الامام

أو من نصبه لذلك.

و لكن مع عدم احتياجنا لاقامة الدليل على عدم مشروعيتها مع عدم الشرط و كون الأصل عدم المشروعية، ذكرنا بعض الأدلة أى: الأخبار الدالة على اشتراط انعقادها بذلك و مضى الكلام فيها مفصّلا.

الجهة الثانية: في انّه بعد اشتراط انعقاد صلاة الجمعة بالامام أو من نصبه لذلك.

هل ثبت الاذن من قبل من بيده زمام أمرها يعنى امام الأصل عليه السّلام بأن يقيمها الناس و لو مع عدم حضور نفس الامام أو من نصبه بالخصوص لذلك، أولا، و قلنا ما يمكن أن يتمسّك به للاذن منهم، و قلنا بعدم استفادة الاذن للناس من الأخبار

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 103

حتى تجب في مثل هذا الزمان بالوجوب التعييني، أو بالوجوب التخييرى على الكلام في ذلك.

الجهة الثالثة: في أنها بعد كون انعقادها مشروطة بالامام أو من نصبه لذلك فهل فوض أمرها الى الفقيه من ناحية الائمة عليهم السّلام و جعل ذلك من منصب الفقيه و شئونه مثل القضاوة بين الناس و غيره أو لا.

و ظهر لك عدم كون أمر صلاة الجمعة من الأمور الراجعة إليه، فليس للفقيه انعقادها، و القيام بامرها من باب كونه حاكما، و نائبا عاما و كون الولاية له في بعض الامور. «1»

هذا تمام الكلام في ما كنّا في مقام البحث فيه في هذه المسألة. و الحمد للّه أولا و آخرا و صلّى اللّه على رسوله و على آله.

و قد فرغ سيدنا الاستاذ- مد ظله- من البحث في هذه المسألة في شهر شعبان المعظم من شهور سنة «1367 ه ق». و أنا الأقلّ علي الصافي الگلپايگاني. «2»

______________________________

(1)- أقول: إذا اعرفت ما بينا في هذه الرسالة فنقول: بأن الحق هو اشتراط وجوب صلاة الجمعة

و مشروعيتها بأن يقيمها الامام عليه السّلام أو من نصبه لذلك، بمعنى عدم جواز اتيانها و انعقادها مع فقدان هذا الشرط إلا بقصد الرجاء و الاحتمال المطلوبية، فعلى هذا في زمان غيبة الامام عليه السّلام لا يجوز الاتيان بها بقصد التشريع، و لو أتى بها برجاء المطلوبية لا تجزئ عن صلاة الظهر بل لا بد من إتيانها. (المقرّر).

(2)- اعلم أن المستفاد من كيفية ورود سيدنا الاعظم في البحث في صلاة الجمعة، و البحث في وجوبها أو حرمتها، و ما اختار منها، يظهر أن نظره الشريف هو عدم كون وزان صلاة الجمعة وزان سائر الصلوات اليومية، بل كانت صلاة الجمعة من جملة مناصب الوالى، و من له أمر-

المسلمين الّذي هو عندنا الإمام المعصوم عليه السّلام بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و عند العامة من مناصب الولاية في نظرهم الباطل، و على كل حال لا يصلح إقامة الجمعة إلّا لمن له الولاية عند المسلمين على اختلاف مشربهم فيمن له الولاية، كما يظهر ذلك في جمع من الأخبار الصادرة عن طرقنا المقدم ذكرها بأنّه لا يصلح لإقامة الجمعة إلّا الوالي، و هذا حاصل ما استفدته من بحثه في صلاة الجمعة.

ثمّ بعد ذلك يقع الكلام في انّه بعد ثبوت ولاية الفقيه في عصر غيبة الامام- روحي له الفداء- هل يكون للفقيه الولاية على إقامتها أو لا؟ و قد تعرّضنا للمسألة في رسالتنا المكتوبة في الولاية فراجع (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 105

فصل في صلاة المسافر

اشارة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 107

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه على نعمائه، و الصّلاة و السّلام على رسول اللّه و على آله، و لعنة اللّه على أعدائهم من الآن الى يوم لقائه.

و

بعد، فيقول أقلّ العباد علي الصافي الكلبايكاني: لما فرغ سيدنا الاستاذ آية اللّه العظمى الحاج السيّد حسين الطباطبائى البروجردي- متّع اللّه المسلمين بطول بقائه- من بحث صلاة الجمعة، و جملة من المسائل الراجعة الى النوافل، شرع في مبحث صلاة المسافر في شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة «1367 ه»، فشرعت بكتابة جملة ممّا استفدت منه- دام ظلّه- في هذا المبحث مع بعض ما خطر ببالى القاصر إن شاء اللّه تذكرة لنفسي، و لمن أراد البصيرة من إخواني المشتغلين بعون اللّه تعالى و توفيقه.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 109

صلاة المسافر إن الكلام في صلاة المسافر يقع في جهات:

الجهة الاولى:

اشارة

لا إشكال في الجملة في وجوب القصر في السفر، بمعنى صيرورة كلّ من الصلوات الرباعية مقصورة على الركعتين في السفر، و هذا المقدار من المسلّمات و لا حاجة الى إطناب الكلام في هذه الجهة، و التكلّم في دلالة قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكٰافِرِينَ كٰانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً «1» على وجوب القصر في حدّ ذاتها، لانّ الآية الشريفة و لو لم تكن بنفسها و بظاهرها دالة على وجوب القصر لعدم ظهور لقوله: «لا جناح» إلّا في الجواز، لكن بضميمة ما ورد من أهل البيت عليهم السّلام في بيان الآية من أنّ المراد من «لا جناح» هو الوجوب، فتصير الآية دليلا للمطلب.

[عدم اعتبار الخوف فى القصر]

و لا يعتبر الخوف في السفر الموجب للقصر بتوهّم تقييد القصر في الآية

______________________________

(1)- سورة النساء، الآية 101.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 110

بالخوف بقوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، لأنّه إن كان ما نزل هو على طبق قراءة ابيّ فما كان في مصحفه «إن خفتم».

و إن كان «إن خفتم» من الآية بمقتضى قراءة عاصم فنقول: بأنّه و لو كان للقضية الشرطية مفهوم و لكن ليس لها هنا مفهوم، لكون المسلّم عدم اعتبار الخوف، فأصل القصر في الجملة في السفر ثابت لا إشكال فيه.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 111

الجهة الثانية: في شروط القصر

الشرط الأول:
اشارة

اعتبار المسافة؛ بلا خلاف في ذلك بين الفريقين، و إنّ التقصير مجعول في حدّ خاصّ، لا أنّه مجعول في الشرع بمجرّد مسمّى السفر و صدق المسافر على الشخص، كما حكي عن داود الظاهري الاصبهاني، فإنّه لم يجعل التقصير محدودا بحد، بل قال بالتقصير بمجرد صدق المسافر على الشخص قليلا كان سفره أم كثيرا، فعلى هذا اعتبار المسافة في الجملة لا اشكال فيه، إنّما الكلام في أنّ المسافة الموجبة للقصر كم هي؟

[اعتبار ثمانية فراسخ فى وجوب القصر]

فقال أبو حنيفة: يثبت القصر في ثلاث مراحل.

و قال الشافعي و مالك بثبوت القصر في مرحلتين. و المراد من كلّ مرحلة مسيرة يوم، و هي ثمانية فراسخ.

و أمّا فقهاء الإمامية- رضوان اللّه عليهم- فاختلفوا في الحدّ الثابت فيه القصر للمسافر، حتى أن الاقوال الّتي نقلت منهم في المسألة تبلغ ثمانية أقوال و إن لم نجد قائلا لبعض هذه الاقوال، و المعروف منها ثلاث، و منشأ الاختلاف في المقام هو

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 112

اختلاف الأخبار،

[في ذكر طوائف الاخبار في اعتبار المسافة]

فنقول: إن أخبار الباب ثلاثة طوائف:

الطائفة الاولى: ما يستفاد منها إنّ المعتبر في وجوب القصر ثمانية فراسخ امتدادية و ان كان لسانها مختلفة، فبعضها بلفظ «البريدين» و بعضها بلفظ «مسيرة يوم» و بعضها بلفظ «بياض يوم» و بعضها بلفظ «ثمانية فراسخ»، و غير ذلك، فالمستفاد منها في حد ذاتها، هو اعتبار بعد ثمانية فراسخ من المنزل الى المقصد في وجوب القصر بحيث لو كنّا و هذه الأخبار فقط، فلا بدّ لنا من الالتزام باعتبار ثمانية فراسخ امتدادية.

و من هذه الطائفة: الرواية الّتي رواها فضل بن شاذان، عن الرضا عليه السّلام (أنّه سمعه يقول: إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك و لا أكثر، لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة و القوافل و الاثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، و لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة، و ذلك لأنّ كلّ يوم بعد هذا اليوم انّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم فما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما) «1».

و المراد من ذيل الرواية من العلّة، كون التقصير باعتبار أنّ المسافر في اليوم وقع

في المشقة و شدة مرارة السفر، ففي الليل ترتفع المشقة و يستريح في الليل، فالحكمة في القصر هي هذه المسافرة الواقعة من الشخص في اليوم، و لو لم يصر ذلك السفر الواقع منه و الحركة في اليوم موجبا للقصر، فلازمه عدم القصر في ألف يوم، لأنّه في كل يوم يسافر و في ليليه يستريح من مرارة السفر، فان صارت مرارة يوم

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 113

موجبا للقصر فهو، و لو لم يصر ذلك موجبا للقصر ففي ألف يوم أيضا لا موجب للقصر؛ لأنّ كلّ يوم من هذه الأيّام هو نظير اليوم الأول، فيسافر في اليوم و يستريح في الليل، فذكر العلة كان لهذه المناسبة. و على كل حال تكون الرواية دالّة على وجوب القصر في ثمانية فراسخ.

و منها: الروايات 12 و 13 و 14 من هذا الباب، «1» و لم نتعرّض لكلّ الأخبار، و من أراد النظر فيها فليراجع الكتب المعدة لذلك

الطائفة الثانية: الروايات الدالة على اعتبار مسير أربعة فراسخ باختلاف التعابير، فبعضها عبر بلفظ «بريد» و بعضها بلفظ «اثنى عشر ميلا» و بعضها بلفظ «أربعة فراسخ» بحيث لو كنّا و هذه الأخبار لقلنا بوجوب القصر في مسافة أربعة فراسخ فقط.

منها الرواية الّتي رواها ابو اسامة زيد الشحام (قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: يقصّر الرجل الصّلاة في مسيرة اثنى عشر ميلا). «2»

و كذا الرواية 1 من هذا الباب و غير هما المستفاد منها وجوب القصر في أربعة فراسخ.

الطائفة الثالثة: بعض الاخبار الدالّة على وجوب القصر في السفر ثمانية فراسخ، سواء كانت ذهابا، او ذهابا و ايابا، بحيث لو كنا

و هذه الاخبار لقلنا: بأنّ القصر واجب في ثمانية فراسخ، سواء كان هذا المقدار- يعنى: الثمانية فراسخ- ذهابا

______________________________

(1)- الرواية 12 و 13 و 14 من الباب 1 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 3 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 114

فقط من المنزل الى المقصد في السفر، أو كان ثمانية فراسخ ذهابا و ايابا، فيجب القصر فيما لو سافر أربعة فراسخ و يعود أربعة فراسخ، مثل رواية «1» معاوية بن وهب و غيرها.

[لسان الاخبار مختلفة من حيث كون الفراسخ امتدادية او ملفقة]

إذا عرفت حال هذه الأخبار، فنقول: إنّ لسان هذه الأخبار مختلف:

بعضها يدلّ على أن السفر الموجب للقصر يكون مورده، ما إذا سافر ثمانية فراسخ امتدادية، و بعضها يدلّ على وجوب القصر في السفر إذا كان أربعة فراسخ فقط، و بعضها يدلّ على لزوم ثمانية فراسخ، و لكن لا يجب ان يكون الذهاب من المنزل الى المقصد هذا المقدار، بل يكفي ثمانية فراسخ ملفقة أيضا بحيث إذا كان الذهاب أربعة فراسخ و الاياب أربعة فراسخ فيجب القصر.

فتكون الروايات الدالة على اعتبار ثمانية فراسخ امتدادية في وجوب القصر معارضة مع الطائفة الثانية الدالة على وجوب القصر في أربعة فراسخ، لأنّ الطائفة الاولى تعتبر ثمانية فراسخ في وجوب القصر، و معناه عدم وجوب القصر في ادني من ذلك و ان كان أربعة فراسخ، و طائفة الثانية تدلّ على وجوب القصر في خصوص أربعة فراسخ بدون اعتبار انضمام أربعة فراسخ اخر بها، فيقع التعارض بينهما.

و لكنّ الطائفة الثالثة من الأخبار ترتفع التعارض من بينهما، و نجمع بينهما بقرينة أخبار الطائفة الثالثة.

فنقول: بأنّ الطائفة الاولى من الأخبار في حد ذاتها تدلّ على اعتبار البعد من

______________________________

(1)- الرواية 2

من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 115

الوطن بمقدار ثمانية فراسخ.

و الطائفة الثانية تدلّ على اعتبار البعد بمقدار أربعة فراسخ في وجوب القصر فيقع بينهما التعارض.

و لكنّ الطائفة الثالثة بعد دلالتها بأنّ الموجب للقصر يكون أحد الامرين في السفر: إمّا المسافة الّتي كانت بمقدار ثمانية فراسخ و إمّا المسافة الّتي تكون بمقدار أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة جائيا، و بعبارة اخرى تدلّ على أنّ ما هو محقّق للسفر الموجب للقصر له فردان:

أحد هما البعد الحاصل في ثمانية فراسخ، فمن خرج من منزله و أراد المسير بهذا المقدار يجب عليه القصر.

و ثانيهما الثمانية الملفقة، بمعنى أن المسير الّذي كان ذهابا و ايابا ثمانية فراسخ فهو أيضا محقّق للقصر، فمن أراد السفر و كان من منزله الى مقصده أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا، فهو مسافر بالسفر الذي يجب فيه القصر، فتصير شاهدا للجمع بين الطائفة الاولى و الثانية.

لأنه على هذا، ما يدلّ من الأخبار على اعتبار الثمانية، و أن ذلك موجب للقصر، فهو من باب كون تلك المسافة فردا لما هو محقّق القصر.

[محقّق السفر أربعة فراسخ امتدادية او ملفقة]

و ما يدلّ على اعتبار أربعة فراسخ، و أن بذلك يحب القصر، يكون من باب كون ذلك الحد فردا آخر لما هو محقّق السفر الموجب للقصر، لأنّ من ذهب أربعة فراسخ فهو يجي ء أربعة فراسخ، فيحصل بريد ذاهبا و بريد جائيا المستفاد من الاخبار الدالة على كفاية الثمانية التلفيقية، و كان الحكم بكون أربعة فراسخ محقّقة للقصر من باب حصول الثمانية الملفقة بذلك، لأنّ من ذهب أربعة يجي ء أربعة،

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 116

فتحصل بذلك الثمانية أيضا.

فعلى هذا يرتفع التعارض بين الاخبار، و تكون نتيجة الجمع

أن المعتبر في السفر الموجب للقصر يحصل باحد الامرين:

إمّا بريدان ذاهبا أعنى: ثمانية فراسخ امتدادية، و إمّا بريد ذاهبا و بريد جائيا اعنى: ثمانية فراسخ ملفقة، فمن ذهب أربعة فراسخ فيجب عليه القصر، لانّه ذهب أربعة فراسخ و يجي ء أربعة فراسخ.

و أمّا بعض الاخبار المنقولة الدالة إمّا على أن العبرة تكون في التقصير في السفر مسيرة يوم و ليلة، مثل رواية زكريا ابن «1» آدم، أو أنّ العبرة في التقصير بثلاثة برد و هو رواية «2» أحمد بن محمّد عن بن أبى نصر، أو أن العبرة في التقصير بمسيرة يومين و هو رواية ابي بصير «3» المخالف ظاهرها مع طوائف الأخبار المتقدمة، فانّه لا يمكن تطبيقها معها، فلا بدّ من طرحها لعدم كونها معمولا بها، و كذلك لو كان خبر مخالفا لطوائف الثلاثة المتقدمة لا يمكن التعويل عليه، لعدم كونه معمولا به، فافهم.

هذا تمام الكلام في أصل المسألة.

[مسائل]
اشارة

ثمّ بعد ذلك يقع الكلام في بعض الجهات نتعرّض لها في ضمن مسائل:

[المسألة الاولى من المسائل المربوطة بالباب]
اشارة

المسألة الاولى: هل يعتبر في السفر الموجب للقصر أن يكون ذهابه أربعة فراسخ، بحيث لو ذهب ثلاثة فراسخ و جاء خمسة فراسخ- بمعنى كون ذهابه ثلاثة فراسخ و مجيئه خمسة فراسخ مثلا- لم يجب عليه القصر، بل يجب عليه التمام، لعدم

______________________________

(1)- الرواية 5 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 10 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- الرواية 9 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 117

تحقّق موضوع السفر الموجب للقصر، او لا يعتبر ذلك، بل لو كان ذهابه أقل من أربعة و لكن مجيئه كان بحدّ يحصل من مجموع الذهاب و الإياب ثمانية فراسخ، كان الواجب عليه القصر؟

و كذلك يقع الكلام في انّه بعد كفاية ثمانية فراسخ ملفقة في وجوب القصر، فهل يعتبر أن يكون الإياب أربعة فراسخ، سواء اعتبرنا كون الذهاب أربعة فراسخ أو لم نعتبر ذلك، او لا يلزم ذلك في الاياب، بل لو كان الاياب أقل من ذلك و كان الذهاب بمقدار يكون المجموع ثمانية فراسخ يكفي في وجوب القصر، مثلا لو أراد المسير الى مقصد يكون البعد بينه و بين وطنه خمسة فراسخ، ثمّ أراد الرجوع من طريق آخر يكون ثلاثة فراسخ، فيكون الذهاب خمسة فراسخ و الإياب ثلاثة فراسخ، فقد حصل ما هو المحقّق للسفر الموجب للقصر؟

فنقول: إن الحقّ هو اعتبار كون أقل الذهاب أربعة فراسخ، بحيث لو كان أقل من ذلك و لو كان الاياب بمقدار يكون المجموع من الذهاب و الاياب ثمانية فراسخ، لم يتحقق السفر الموجب للقصر، و أمّا لا

يعتبر ذلك في الاياب، فلو كان الاياب أقل من أربعة فراسخ، مثل أن يكون الذهاب من الطريق الّذي يكون البعد فيه بين المنزل و المقصد خمسة فراسخ، و يكون الإياب من الطريق الّذي يكون البعد فيه بين المنزل و المقصد ثلاثة فراسخ، فقد حصل محقّق القصر.

و وجهه ان يقال: بأن المستفاد من الروايات اعتبار مقدار البعد من منزل المسافر، و قد حدّد الشارع هذا البعد، و هو- بعد ما قلنا في مقام الجمع بين الأخبار- ثمانية فراسخ او أربعة فراسخ اقلا من باب كون البعد بمقدار أربعة فراسخ مشتمل مع العود و المجى ء، الى المنزل على ثمانية فراسخ، فلا بدّ من حصول البعد من المنزل بمقدار

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 118

أربعة فراسخ اقلا، لأنّ الروايات تكون من هذا الحيث في مقام التحديد، و بعد كون الروايات في مقام التحديد، فلا بدّ من اعتبار أربعة فراسخ ذاهبا، و عدم كفاية أقل من ذلك في الذهاب لكون المعتبر في تحقق السفر مقدارا من البعد في نظر العرف، و الشارع حدّد هذا المقدار بأربعة فراسخ، و لهذا نقول في وجوب القصر: بلزوم كون الذهاب أقلا أربعة فراسخ، و لا وجه لرفع اليد عن هذا التحديد لعدم حصول البعد المعتبر الا في هذا المقدار من البعد، هذا وجه لزوم كون الذهاب في الثمانية الملفقة أربعة فراسخ اقلا.

[في لزوم كون الإياب أربعة فراسخ من باب الغالب]

و أمّا وجه عدم اعتبار ذلك في الاياب و المجي ء فنقول: بأنّه و ان كان كلّ من الطوائف الثلاثة من الأخبار في مقام التحديد، و ليس لسانها بعد الجمع كفاية الثمانية الملفقة باي نحو كان، و لكن اعتبار البريد الجائي اعنى أربعة فراسخ ايابية، ليس له الموضوعية بنظر العرف، بل يفهم

العرف أن بيان ذلك ليس إلا من باب التغليب، حيث انّ الغالب فيمن يسافر هو العود من الطريق الّذي ذهب منه، فيكون الاياب بقدر الذهاب و لهذا عبر ببريد جائى في قبال بريد ذاهب، و بعد كون ذلك الحكم من باب الغلبة فلا دخل لخصوص أربعة فراسخ في الاياب، بل لو كان الاياب أقل من ذلك يكفي في حصول السفر الموجب للقصر إذا كان الذهاب بمقدار إذا ضم الاياب إليه يبلغ المجموع منهما ثمانية فراسخ، فمن اراد السفر و ذهب الى المقصد من طريق يكون الفصل و البعد بين منزله و المقصد خمسة فراسخ مثلا، ثمّ عاد من طريق آخر يكون البعد من هذا الطريق من منزله الى مقصده ثلاثة فراسخ، فيكفي في وجوب القصر لحصول ما هو محقّق القصر و هو ثمانية فراسخ تلفيقية.

و لو قيل باعتبار كون الاياب أربعة فراسخ مثل الذهاب فلا بدّ من الالتزام

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 119

بفرض لا يمكن الالتزام به، و هو انّه من سافر و كان ذهابه اكثر من أربعة فراسخ مثلا خمسة فراسخ، فاذا رجع الى منزله فاذا بلغ الى حدّ يكون مع الضمّ بالذهاب ثمانية فراسخ مثلا أن في المثال بلغ الى ثلاثة فراسخ، لم يكن بالغا حد السفر الشرعى و هو ثمانية فراسخ، لأنه لم يكن ايابه أربعة فراسخ، بل لا بدّ و أن يسير فرسخا آخر حتى يبلغ الى حد السفر الشرعى، و هو ثمانية فراسخ، لأنه لم يكن إيابه أربعة فراسخ، بل لا بدّ و أن يسير فرسخا آخر حتى يبلغ حد السفر الشرعى، فكان على هذا السفر الموجب للقصر في حق هذا الشخص تسعة فراسخ، لأنّه ذهب خمسة فراسخ و

جاء أربعة فراسخ، و الحال أنّه لا يمكن الالتزام بذلك.

فعلى هذا الحقّ هو ما قلنا من اعتبار كون الذهاب أربعة فراسخ و عدم اعتبار ذلك في الاياب؛ لأنّ البعد المعتبر لا يحصل في الذهاب الّا بأربعة فراسخ، و أمّا في الاياب فليس اعتبار البريد الجائي إلّا من باب الغلبة، لا من باب موضوعية ذلك بنظر العرف، و لا يفهم العرف منه التحديد، بخلاف اعتبار أربعة فراسخ في الذهاب، فانّهم يفهمون منه التحديد لاعتبار مقدار بعد في حصول السفر. «1»

______________________________

(1)- أقول: و إنّي بعد التأمّل و التكلّم مع سيدنا الاستاذ- مدّ ظلّه- في مجلس الدرس و في الخارج، لم أجزم بتمامية هذا المطلب بحيث يكتفى به في مقام الفتوى؛ لأنّ الروايات بعد الجمع بالنحو المتقدم إمّا أن تكون في مقام التحديد، فالظاهر منها بعد الجمع هو اعتبار ثمانية فراسخ امتدادية، أو خصوص أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا، فلم يكتف في القصر بغير ذلك في الذهاب و الإياب، و لا يكتفى لا فى الذهاب بأقلّ من أربعة فراسخ و لا فى الإياب؛ لأنّ الاخبار بعد الجمع نتيجتها التحديد بحدّ معيّن و هو ثمانية فراسخ امتدادية أو أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا.-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 120

المسألة الثانية:
اشارة

أنّه بعد ما قلنا من حصول موضوع السفر الموجب للقصر

______________________________

و إن لم تكن نتيجة الأخبار بعد الجمع هو بيان الحدّ و عدم كونها في مقام التحديد، فلازمه كفاية مسير ثمانية فراسخ في حصول السفر الموجب للقصر، سواء كانت امتدادية أو ملفقة، و في الملفقة يكفي كون السفر بهذا المقدار بأيّ نحو حصل، سواء كان أربعة ذاهبا و أربعة جائيا، أو كان خمسة فراسخ ذاهبا و ثلاثة

فراسخ جائيا، او بالعكس أو غير ذلك، فعلى هذا لا موضوعية أيضا للأربعة فراسخ لا في الذهاب و لا في الإياب.

و على كل حال سواء قلنا: بكون الروايات في مقام التحديد أو لم نقل بذلك، فلا وجه للفرق بين الذهاب و الإياب باعتبار أربعة فراسخ في الذهاب و عدم اعتبار ذلك في الإياب، بصرف أنّ في الذهاب البعد المعتبر محدود بأربعة فراسخ، و في الإياب لا يفهم العرف- من دخل أربعة فراسخ جائيا، المستفاد من الروايات الدالة على كفاية الثمانية الملفقة- أنّ للأربعة فراسخ موضوعية، بل يفهم أنّ ذلك من باب الغلبة، لأنّه كيف يمكن الجزم بذلك؟

فإنّا نقول: أولا إنّ الروايات في مقام التحديد، و لا بدّ في التلفيقية من أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا، و لازم ذلك اعتبار أربعة فراسخ في الاياب أيضا.

و ثانيا إنّ الجزم بكون الذهاب أربعة فراسخ، و كون الروايات في مقام التحديد، و عدم كون الروايات في الإياب في مقام ذلك، بل يحكم بعدم اعتبار بمقتضى ما يفهم العرف من كون ذلك من باب الغلبة، مشكل فلا يمكن الالتزام بالتفكيك بين الإياب و الذهاب، و لا أقلّ من الشكّ، فالقدر المسلّم من الأخبار الدالّة على كفاية ثمانية التلفيقية هو صورة كون الذهاب أربعة فراسخ و الاياب أيضا كذلك.

و الاستبعاد المذكور في كلام سيدنا الاستاذ- مدّ ظلّه- في ما لو سافر الى محلّ و كان ذهابه- مثلا- خمسة فراسخ، فاذا رجع و بلغ الى رأس ثلاثة فراسخ من مبدأ العود، فلا بدّ من الالتزام- بناء على اعتبار أربعة فراسخ في الإياب- أن لا يكون سفره سفر القصر إلا بعد ضمّ فرسخ آخر به حتى يكون مجموع الذهاب و الإياب

تسعة فراسخ، بأنّ السفر الموجب للقصر في مثل هذا الفرض تسعة فراسخ لا ثمانية فراسخ، غير مانع عن رفع اليد عمّا قلنا، لأنّه بعد اعتبار كون كلّ من الذهاب و الإياب أربعة فراسخ، لا مانع من الالتزام بأنّ في هذا الفرض لم يتحقّق السفر الموجب للقصر إلّا بتسعة فراسخ حتى يكمل أربعة فراسخ إيابية، فتأمّل. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 121

بثمانية فراسخ امتدادية، و بثمانية فراسخ تلفيقية، فهل يعتبر في ثمانية فراسخ الملفّقة من الذهاب و الإياب أن يكون الرجوع ليومه، أو لا يعتبر ذلك؟

و بعبارة اخرى: من سافر و كان مقصده مثلا أربعة فراسخ فيكون ذهابه مع إيابه ثمانية فراسخ، يجب عليه القصر إذا رجع الى منزله في اليوم الّذي خرج منه، أولا يعتبر ذلك؟

بل لو سافر و لم يكن قصده الرجوع ليومه، يجب عليه القصر أيضا ما لم يتحقّق قاطع من قواطع السفر مثل قصد إقامة العشر في المقصد أو غير ذلك؟ اقوال:

أوّلها: وجوب القصر إذا اراد الرجوع ليومه كما يظهر من السيّد المرتضى رحمه اللّه و ابن إدريس على ما نقل بحر العلوم رحمه اللّه منهما، و وجوب التمام لغير مريد الرجوع ليومه، و يظهر من مراجعة أقوال العلماء اعتناؤهم بهذا القول.

ثانيها: التخيير بين القصر و الإتمام في ما لم يرد الرجوع ليومه، أو مطلقا اعنى:

و لو أراد الرجوع ليومه.

و نسب القول بالتخيير الى الشّيخ رحمه اللّه، و هو إمّا قائل بالتخيير مطلقا لو أراد أن يسير أربعة فراسخ و يعود، سواء أراد ليومه أولا، أو قائل بالتخيير في المسألة فيما لم يرد الرجوع ليومه على احتمال.

ثالثها: وجوب القصر في المسألة سواء اراد الرجوع ليومه أولا. و نسب العلّامة رحمه اللّه هذا

القول الى ابن أبي رحمه اللّه عقيل لأنّ كتابه المسمى ب «التمسك بحبل آل الرسول» كان عند العلّامة رحمه اللّه فنقل منه وجوب القصر مطلقا. و يستفاد من المنقول من كلامه أنّه لا يلزم الرجوع ليومه في ثمانية فراسخ الملفقة، فمن لم يرد الرجوع ليومه فهو مسافر إلّا إذا انقطع سفره بقاطع من إقامة العشرة، أو بقاء ثلاثين يوما متردّدة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 122

في رأس أربعة فراسخ، أو بلوغه الى وطنه.

و ما يمكن أن يكون وجها لفتواه أمران:

الأمر الأول: أنّ مقتضى الجمع بين الروايات كما قلنا، هو كون السفر الموجب للقصر له فردان: الأوّل مسافة ثمانية فراسخ امتدادية، الثانى: مسافة ثمانية فراسخ تلفيقية، فكما أنّ في الأوّل لا يعتبر أن تقع تمام الثمانية في اليوم الأول، بل لو سافر ثمانية في يومين أو ثلاثة أيّام، فلا يضرّ بسفره فكذلك في الثاني، اعني: ثمانية فراسخ الملفقة، فمن ذهب أربعة فراسخ في يوم الى محلّ و أراد الرجوع، و بات فيه ليلة أو ليا ليتين، و لم يقطع سفره بقاطع، ثمّ عاد الى منزله و كان مجيئه أيضا أربعة فراسخ، فهو مسافر، و يجب عليه القصر في هذا السفر.

الأمر الثاني: بعض ما يدلّ من الأخبار على ذلك مثل روايات عرفات و غيرها، فنقول:

أمّا الامر الأوّل: فهل تكون أخبار الدّالة على كفاية ثمانية فراسخ ملفقة دالّة على كون ثمانية فراسخ ملفقة فردا للسفر الموجب للقصر حتى يكون له فردان ثمانية امتدادية و ثمانية تلفقية، أو لا تدلّ على ذلك، بل غاية ما تدلّ عليه هو أنّ ثمانية فراسخ ملفقة موجبة للقصر، و يكون لسانها هذا المقدار فقط؟

فإن كان الأوّل فيكون لازمه عدم اعتبار حصول هذه الثمانية

الملفقة في اليوم الأول، كما لا يعتبر حصول ثمانية فراسخ امتدادية في اليوم الأول؛ لأنّ كلا منهما بوزان واحد فرد للسفر الموجب للقصر.

و أمّا إن كان بنحو الثاني فلا دلالة لها إلّا على كون ثمانية فراسخ ملفقة موجبة للقصر في السفر، و ليست الأخبار في مقام بيان كيفية سببيتها و موجبيّتها للقصر، فلا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 123

يستفاد منها الّا كون ثمانية فراسخ ملفقة موجبة للقصر في الجملة «1».

و أمّا الامر الثاني: فنقول: إنّ روايات عرفات ينتهى سند ثلاثة «2» منها الى معاوية بن عمّار، و هو من أصحاب ابي عبد اللّه عليه السّلام، و له كتابان في الحج و الطلاق، و لهذا يشاهد روايات كثيرة منه في الحج و الطلاق، و كان أبوه من أعاظم محدثي العامة.

و يحتمل أن يكون ما رواه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام رواية واحدة، و لكن نقلها عنه عليه السّلام ثلاث مرّات، و لهذا عدّ ثلاث روايات، و يحتمل أنّه سمعها من أبي عبد اللّه عليه السّلام ثلاث مرّات، و على كلّ حال ما نقل منه ثلاث روايات. و سند واحدة «3» منها ينتهي الى إسحاق بن عمّار إن لم نقل بكون هذه الرواية أيضا كان راويها معاوية، و اشتبه في النقل و ذكر في موضع معاوية بن عمّار، إسحاق بن عمار، و سند واحدة منها «4» ينتهي الى الحلبي. و سند واحدة منها ينتهي الى زرارة «5». و تكون مرسلة من المفيد رحمه اللّه أيضا في باب عرفات.

______________________________

(1)- أقول أولا: إنّ لسان هذه الروايات جعل الفردية، و أنّ ثمانية فراسخ ملفقة فرد في قبال ثمانية فراسخ امتدادية؛ لصراحة بعض الروايات في ذلك، و يستفاد منه أنّ

البريد الذاهب و البريد الجائي مثل البريدين الامتدادى، شاغل لليوم و أثره اثره، فكما لا يعتبر في البريدين أن يكون الذهاب تمامه في اليوم الأوّل فكذلك في البريدين الملفقة.

و ثانيا؛ إنّ الروايات غير مقيّدة بمريد الرجوع ليومه، فمقتضى الاطلاق عدم اعتبار كون المسافر مريد الرجوع ليومه. (المقرر).

(2)- الرواية 1 و 2 و 5 من الباب 3 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- الرواية 6 من الباب 3 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

(4)- الرواية 8 من الباب 3 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

(5)- الرواية 3 من الباب 4 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 124

إذا عرفت هذا فتقع الكلام في ذكر الروايات فنقول:

الرواية الاولى: و هي الرواية الّتي رواها الحلبي عن ابي عبد اللّه عليه السّلام (قال:

إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصّروا، و إذا زاروا و رجعوا الى منازلهم أتمّوا). «1»

و الظاهر أنّ المراد من أهل مكّة هم ساكنو أطراف مكة، أعنى: أهل البوادي المقيمين في أطرافها، إذ لو كان المراد خصوص أهل مكة، فلا معنى لأنّ يقول ابو عبد اللّه عليه السّلام كما في الرواية: «و إذ زاروا و رجعوا الى منازلهم أتمّوا» لأنّ الواجب هو الوقوف في عرفات، و لم يطلق به الزيارة، فعلى هذا القول فالرواية لم تكن في مقام البيان من حيث سفر عرفات، و بعبارة اخرى: ليست متعرّضة لكون سفر عرفات من مكّة الّذي يكون البعد بينهما أربعة فراسخ موجبة للقصر من حيث كون البعد بين مكة و العرفات أربعة فراسخ، بل بعد قرينة قوله: «إذا زاروا» نقول: إن قصر أهل مكة بعد كون المراد بهذه القرينة قصر أهل نواحي مكّة و أطرافها، يمكن

أن يكون من باب كون سفرهم ثمانية فراسخ من منزلهم الى مقصدهم، لا أربعة فراسخ، فلا ربط للرواية بما نحن فيه.

الرواية الثانية: و هي رواية رواها إسحاق بن عمّار (قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام في كم التقصير؟ فقال: في بريد، و ويحهم كأنّهم لم يحجّوا مع رسول اللّه فقصّروا). «2»

و الظاهر أنّ المراد ممّن صار مورد الويح في هذه الرواية ليس احدا ممّن كان في عهد أبى عبد اللّه عليه السّلام، لأنه لم يكن في زمانه من أدرك زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حجّ

______________________________

(1)- الرواية 8 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 6 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 125

معه حتى يقول عليه السّلام فيهم «ويحهم كانّهم لم يحجّوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم»، فيكون المراد ممّن قال: ويحهم في حقهم من كان في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

فنقول: إنّه تارة يستشكل على الرواية بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يحجّ بعد هجرته من مكّة الى مدينة إلّا مرة واحدة، و هو عبارة عن حجة الوداع، فهو كان في هذا السفر مسافرا بسفر موجب للقصر مسلّما و هو ثمانية فراسخ امتدادية، لأنه مسافر من المدينة، لا من باب كونه ذاهبا من مكّة الى عرفات، لأنه في أربعة أو خمسة أيّام بقين من شهر ذي القعدة خرج من المدينة و نزل بمكة في أربعة أيّام مضين من شهر ذي الحجة و خرج في اليوم الثالث عشر من منى الى الأبطح، و

توقّف فيه مقدارا و ذهب الى المدينة، فهو في هذا السفر كان مسافرا، و كان ذهابه أزيد من ثمانية فراسخ امتدادية، فإن كان الإشكال هذا فيمكن جوابه بوجهين:

الوجه الأوّل: إمّا إنّ يقال: إن مكّة كانت وطنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لم يعرض عنه.

و إمّا أن يقال: بأنّه و إن أعرض عنه، و لكن يجري على الوطن المعرض عنه حكم الوطن إمّا مطلقا أو في ما كان له منزل فيه، و إن لم نقل بذلك بمقتضى ظواهر الأدلّة الّا انّه يمكن أن يكون الحكم الواقعي هكذا

الوجه الثّاني: أن يقال: إن مدلول الرواية هو التمسك بقصر هم، أعنى: بقصر من كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لا قصر نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و لذا قال «فقصروا» و على هذا نقول: يمكن أن يقال: بأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و لو كان بنفسه مسافرا، لكن أمر بمن كان معه من أهل مكة بالقصر لكون سفر هم من مكّة الى عرفات بريدا ذاهبا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 126

و بريدا جائيا. «1»

و على كل حال لا إشكال في كون الرواية من شواهد كون القصر في بريد و استشهد بمورد الّذي قصروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بريد، و هو لا يساعد الا مع السفر من عرفات الى مكة، و لا وجه للاشكال بما قلنا من أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لم يحج بعد الهجرة إلّا مرة واحدة و كان في هذا السفر مسافرا من المدينة و كان سفره على هذا

أكثر من ثمانية فرسخ امتدادية من المنزل الى المقصد.

امّا أولا فلإمكان كون ذلك قبل الهجرة، فانّه حج و معه عدة ممّن اسلم و إن كانوا قليلا.

و امّا ثانيا إنهم قصروا في بريد لأنّ المعصوم استشهد بذلك الحيث، فيكون مسلما نظره الى سفر يكون البعد بينه و بين المنزل بريدا، فأيضا يستفاد وجوب القصر في بريد من هذه الرواية. و هي في حد ذاتها تدلّ على كون القصر في بريد اعنى: أربعة فراسخ.

الرواية الثالثة: و هي الرواية الّتي رواها معاوية بن عمّار (قال قلت لابي عبد اللّه عليه السّلام كم اقصر الصّلاة فقال: في بريد، الا ترى أن أهل مكّة إذا خرجوا

______________________________

(1)- أقول: و يمكن أن يكون المراد ممّن قصر مع رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم في نظر ابي عبد اللّه عليه السّلام على ما في هذه الرواية: هو عثمان و امثاله ممّن كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و هم كانوا معه قبل الهجرة و يحضرون معه في مراسم اداء الحج، فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل الهجرة حج و معه هذه الاشخاص، و كان سفرهم من مكّة الى عرفات أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا، و نظر المعصوم عليه السّلام الاستشهاد بفعلهم لاثبات كون التقصير في بريد، فلا بدّ و أن يكون نظره بسفر هم الّذي كان البعد بين المنزل و بين المقصد في بريد، و هو ينطبق مع السفر من مكّة الى عرفات. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 127

الى عرفة كان عليهم التقصير). «1»

و الظاهر من الرواية وجوب القصر في بريد، و استشهد بذلك بفعل أهل مكة، فإنّهم إذا خرجوا

الى عرفة يجب عليهم التقصير، و هذه الرواية أيضا تدلّ على أن القصر في بريد، و أن القصر واجب فيمن يخرج من أهل مكّة الى عرفات، الفصل بينها و بين عرفات بريد، فهذه الرواية مثل رواية السابقة في حد ذاتها من الروايات الدالة على كون القصر في بريد، اعنى: في أربعة فراسخ.

غاية الأمر بعد جمعها مع الروايات الدالة على البريدين المركب من الذهاب و الاياب، اعنى: الروايات الدالة على وجوب القصر في ثمانية فراسخ ملفقة، فتكون النتيجة هو وجوب القصر في بريدين ذاهبا و جائيا.

الرواية الرابعة: رواية اخرى عن معاوية بن عمار، و هي بنقل الشّيخ رحمه اللّه تكون هكذا: عن معاوية بن عمّار، عن ابي عبد اللّه عليه السّلام (قال: أهل مكّة إذا زاروا البيت و دخلوا منازلهم ثمّ رجعوا الى منى أتمّوا الصّلاة، و إن لم يدخلوا منازلهم قصّروا). «2»

و بنقل الكلينى رحمه اللّه تكون هكذا: عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

إن أهل مكّة إذا زاروا البيت و دخلوا منازلهم أتمّوا، و إذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا. «3»

و على كلّ حال ليست هاتان الروايتان إلّا رواية واحدة، لأنّ الراوي في كلّ

______________________________

(1)- الرواية 4 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 4 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- الرواية 7 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 128

منهما عن معاوية بن عمّار، هو ابن أبي عمير و إن كانتا مختلفتين من حيث المتن.

[اختلاف متن الرواية بنقل الكلينى رحمه اللّه مع نقل الشيخ رحمه]

ثمّ اعلم أن متن الرواية إن كان هو ما نقله الكلينى رحمه اللّه، فيحتمل أن يكون المراد من أهل مكّة- كما قلنا- هو

أهل أطراف مكة، و الغرض أنّهم إذا سافروا لزيارة البيت لكون سفر هم ثمانية فراسخ يجب عليهم القصر إلّا إذا دخلوا منازلهم، و متى لم يدخلوا منازلهم يجب عليهم القصر، فظاهرها اعتبار شرط آخر في عدم وجوب القصر و وجوب التمام، و هو دخول المنازل كما أفتى به علي بن بابويه، لأنّه لم يكف في تمامية السفر و وجوب التمام للمسافر بدخول البلد، بل اعتبر دخول المنزل.

و كذلك الأمر بناء على نقل الشّيخ رحمه اللّه، لأنّه و لو كان في نقله زيادة و هي: «ثمّ رجعوا الى منى»، و لكن مع ذلك يحتمل أن يكون المراد من أهل مكّة أهل أطراف مكّة بقرينة التعبير بالزيارة، الّذين كان سفرهم سفر التقصير، أعني ثمانية فراسخ امتدادية، فعلى هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه.

نعم، بناء على كون المراد من أهل مكّة هو أهل خصوص مكة، فالرواية متعرضة لسفرهم الى عرفات خصوصا بنقل الشّيخ رحمه اللّه المستفاد منها أنّهم إذا رجعوا ثانيا للبيتوتة في المنى لا يجب عليهم القصر. لأنّ زيارتهم للبيت كان في مراجعتهم من عرفات، و إنّهم متى لم يزوروا البيت و لم يدخلوا منازلهم يجب عليهم القصر؛ لأنّهم سافروا الى عرفات، و هذا السفر أربعة فراسخ، غاية الأمر اعتبار دخول المنازل في وجوب التمام مناسب مع فتوى علي بن بابويه، و هذه الجهة غير مربوطة بالجهة الّتي نحن بسدده.

الرواية الخامسة: و هي الرواية الثالثة الّتي رواها معاوية بن عمّار أنّه (قال لابى عبد اللّه عليه السّلام: إنّ أهل مكّة يتمون الصّلاة بعرفات! فقال: ويلهم، أو ويحهم و أيّ

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 129

سفر أشد منه، لا تتمّ؟!) «1»

و هذه الرواية أيضا

تدلّ على وجوب القصر في أربعة فراسخ بناء على كون المراد من أهل مكّة خصوص ساكنى مكة؛ لأنّ المستفاد من كلام الإمام عليه السّلام هو وجوب القصر في سفرهم الى العرفات، و امّا على تقدير كون المراد من أهل مكّة هو أهل اطراف مكّة كما احتملنا، فيمكن أن يكون لزوم القصر عليهم من باب كون سفرهم ثمانية فراسخ امتدادية.

الرواية السادسة: الرواية الّتي رواها زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام (قال: من قدم قبل التروية بعشرة أيّام، وجب عليه اتمام الصّلاة و هو بمنزلة أهل مكة، فاذا خرج الى منى وجب عليه التقصير، فاذا زار البيت اتم الصّلاة، و عليه اتمام الصّلاة إذا رجع الى منى حتّى ينفر). «2»

تدلّ هذه الرواية على أن من قصد الإقامة في مكة، وجب عليه التمام و صار بمنزلة أهل مكة، فاذا خرج الى منى ليذهب الى عرفات يجب عليه القصر، لأنه قصد مسافة أربعة فراسخ، لأنّ من مكّة الى عرفات أربعة فراسخ، فاذا رجع الى مكّة و زار البيت يجب عليه اتمام الصّلاة أيضا لأنه بلغ الى محل اقامته. «3»

فاذا خرج الى منى لأنّ يبيت فيه ليلتين- ليلة احدى عشر و اثنى عشر من ذى الحجة- فيجب عليه أيضا اتمام الصّلاة، لأنّه خرج من محل إقامته الى أقل من

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 3 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- اقول «فتصير من هذا الحيث دليلا على أن العبور بمحل الإقامة و لو لم يقصد الاقامة فيه موجب لكون الواجب عليه اتمام الصّلاة».

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 130

أربعة فراسخ. «1»

و على كل حال تدلّ الرواية على وجوب القصر

في أربعة فراسخ، لأنّ البعد بين مكّة و عرفات أربعة فراسخ، فهذه الرواية أيضا في حد ذاتها من الروايات الدالة على وجوب القصر في أربعة فراسخ.

الرواية السابعة: و هي مرسلة المفيد رحمه اللّه «2»، و هذه الرواية مع قطع النظر عن الإشكال فيها بكونها مرسلة، لا يبعد دلالتها على كون الواجب في سفر عرفات هو القصر، فتدل على كون السفر في أربعة فراسخ موجبا للقصر.

[حاصل الكلام في روايات عرفات]

هذا حاصل الكلام في الروايات الواردة في عرفات.

و أمّا الرواية الّتي رواها عمر بن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، المشتملة على قصة بدعة عثمان و اتيانه صلاة الظهر في منى أربع ركعات، و ترك ما سنه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و تمارضه بعد ذلك، و دعوته عليا عليه السّلام لأنّ يصلى العصر هكذا، و عدم حضوره عليه السّلام لذلك، ثمّ بعد ذلك اشتمالها لقصة معاوية و عمله على نحو ما سنه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أعنى: اتيانه صلاة الظهر ركعتين في منى، و اعتراض الامويين عليه). «3»

فهي لا تدلّ على قول ابن ابي عقيل لأنّ وجوب القصر المستفاد منها و فعل النبي الصّلاة قصرا في منى، لعله يكون من باب كون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و من كان معه مسافرين بسفر مسلم وجوب القصر فيه أعني: ثمانية فراسخ، و بدعة عثمان أيضا

______________________________

(1)- اقول «فمن هذا الحيث أيضا تدلّ على أن الخروج من المحل الإقامة الى ما دون أربعة فراسخ لا يوجب القصر و إن لم يرجع في اليوم الاول».

(2)- الرواية 12 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- الرواية 9 من الباب

3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 131

يحتمل لأنّ يكون في ذلك اعنى: أتى بأربعة ركعات في السفر المسلم القصر فيه، لانّهم جاءوا من المدينة و كان بعدهم من المدينة الى منى ازيد من ثمانية فراسخ، لا من باب كون السفر من مكّة الى عرفات موجبا للقصر، لكون البعد بينهما أربعة فراسخ. «1»

[في دلالة بعض روايات عرفات على مذهب ابن ابى عقيل]

ثمّ اعلم: أنّ ما ذكرنا من الروايات الواردة في عرفات و إن استشكلنا في دلالة بعضها للمدّعى إلّا انّه لا اشكال في دلالة بعضها الآخر على مذهب ابن أبى عقيل، مثل الرواية الثانية و الثالثة و السادسة فيستظهر منها وجوب القصر في أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة فراسخ جائيا بعد ضم هذه الأخبار الى الروايات الدالة على وجوب القصر في ثمانية فراسخ ملفقة. «2»

______________________________

(1)- أقول: و إن قيل: إن ذكر منى في الرواية و إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان عمله إتيان الصّلاة فيه قصرا، و ذكر بدعة عثمان في خصوص منى، شاهد على خصوصية له غير خصوصية السفر المحقق بثمانية فراسخ، و ليست هذه الخصوصية إلّا انّ البعد بين مكّة و عرفات يكون أربعة فراسخ و هذا البعد موجب للقصر.

فانّه يقال: بأنّ منشأ ذكر سنّة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليس إلّا فعل عثمان و عثمان حيث فعل ما فعل في منى، فلهذا قال إنّ فعله مخالف لسنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من وجوب القصر في السفر، بحيث لو كانت بدعته في غير منى في السفر الموجب للقصر اعنى: ثمانية فراسخ فأيضا كان فعله مخالفا لسنة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم. (المقرّر).

(2)- أقول:

أما ذكره سيدنا الاستاد مد ظله في بعض الروايات المتقدمة من احتمال كون المراد من أهل مكّة أهل اطراف مكة، حتى يكون المجال لأنّ يقال: بأن وجه قصرهم ليس من باب كونهم مسافرين بسفر الّذي يكون البعد بين المنزل و بين المقصد أربعة فراسخ أعنى:

عرفات، بل كان من باب كون البعد بين منزلهم و مقصدهم ثمانية فراسخ امتدادية، لا يكون تماما بنظري القاصر، لانّ وجوب القصر على أهل مكّة على ما احتمله مد ظله يكون من باب كون سفرهم ثمانية فراسخ امتدادية، فإن كان كذلك، فكيف يجب عليهم القصر، أو كان فعلهم القصر-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 132

الرواية الثامنة:

الرواية الّتي نقلها صاحب الوسائل و قال عن عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن اسلم الجبلي، عن صباح الحذاء، عن اسحاق بن عمّار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عن قوم خرجوا في سفر، فلما انتهوا الى الموضع الّذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا من الصّلاة، فلما صار و اعلى فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو على أربعة، تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم الا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم، و هم لا يستقيم لهم السفر الا بمجيئه إليهم، فاقاموا على ذلك أيا ما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتموا الصّلاة أم يقيموا على تقصيرهم؟ قال: إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم اقاموا أم انصرفوا، و إن كانوا صاروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصّلاة قاموا أو انصرفوا، فاذا مضوا فليقصروا). «1»

و رواه الصّدوق في العلل عن أبيه عن سعد و عن محمد بن موسى المتوكل، عن السعدآبادي، عن احمد

بن أبي عبد اللّه، عن محمد بن على الكوفي، عن محمد بن اسلم نحوه و زاد قال: ثمّ قال: هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا، قال: لأنّ التقصير في بريدين، و لا يكون التقصير في أقل من ذلك، فاذا كانوا قد ساروا بريدا و أرادوا أن

______________________________

على الاطلاق، لأنّ منازل أهل اطراف مكّة مختلفة و ليس الأمر بحيث يكون بعد كلهم من منزلهم الى عرفات ثمانية فراسخ، بل ربما يكون بعد منازل بعضهم انقص من ذلك، فلا وجه لكون الواجب عليهم القصر و فعلهم القصر بنحو الكلي، فمن هنا نستكشف ان هذا الحكم في هذه الأخبار يكون بالنسبة الى أشخاص يكون حكمهم واحدا، لكونهم واقعين في مركز واحد و نقطه واحدة و هو مكة، لأنه يصح أن يقال: إن أهل مكة أعني: ساكني مكة يجب عليهم القصر، لانّ كلهم واقعين في محل واحد و هو مكة، و أمّا اهل اطراف مكّة فلم يكونوا كذلك. (المقرّر).

(1)- الرواية 10 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 133

ينصرفوا كانوا قد سافروا سفر التقصير، و ان كانوا ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلّا اتمام الصّلاة، قلت: أ ليس قد بلغوا الموضع الّذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى إنما قصروا في ذلك الموضع لانهم لم يشكوا في مسيرهم و أن السير يجدّ بهم، فلما جاءت العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا. «1»

و رواه البرقي في المحاسن عن محمد بن اسلم مثله مع الزيادة.

و هذه الرواية، مع قطع النظر عن ضعف سندها، تدلّ على عدم اعتبار كون الرجوع ليومه، فتصير دليلا لقول ابن أبي عقيل، فإن

كان ما صدر من موسى بن جعفر عليه السّلام بلا زيادة الّتي نقلها الصّدوق رحمه اللّه، فتدل على كفاية أربعة فراسخ بنفسه في وجوب القصر، غاية الأمر بعد الجمع مع الاخبار الدالة على اعتبار ثمانية فراسخ ملفقة في وجوب القصر، نقول- كما قلنا- بعدم كون أربعة فراسخ بنفسه موجبة للقصر، بل من باب كونها ملفقة بأربعة فراسخ إيابية.

و إن كان ما صدر منه عليه السّلام مع الزيادة، الّتي نقلت في طريق الصّدوق رحمه اللّه، فتصير الرواية مثل الروايات الدالة في وجوب القصر في ثمانية فراسخ ملفقة، لأنّ لسانها كذلك، و على كل حال تدلّ على عدم كون الرجوع ليومه شرطا فى وجوب التقصير.

هذا تمام الكلام في ما يمكن أن يكون دليلا لقول ابن ابي عقيل رحمه اللّه، فالقول بعدم كون الرجوع ليومه شرطا في ثمانية فراسخ ملفقة قوي بمقتضى الأخبار، فإن كنا نحن و هذه الأخبار نأخذ بذلك، فلا بدّ لنا بعد ذلك من التكلم في بعض جهات أخر في المسألة و ما قيل فيها حتى نختار بعد ذكره، ما هو الحق في المقام.

______________________________

(1)- الرواية 11 من الباب 3 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 134

[في ذكر الأقوال فى المسألة]

فنقول، كما قلنا سابقا، إنّ في المسألة أقوالا:

القول الأول: ما هو المشهور بين القدماء، و هو وجوب القصر إذا اراد المسافر الرجوع ليومه، و إن لم يرد الرجوع ليومه فيكون مخيرا بين القصر و الاتمام و هو مختار المفيد رحمه اللّه و الشّيخ رحمه اللّه و المحقّق رحمه اللّه.

القول الثاني: ما يظهر من السيّد المرتضى و ابن إدريس رحمه اللّه، و هو وجوب الإتمام معينا في ما لم يرد الرجوع ليومه.

القول الثالث: ما يظهر من

ابن أبي عقيل رحمه اللّه، و هو انّه قال: كل سفر كان مبلغه بريدين و- هما ثمانية فراسخ- أو بريدا ذاهبا و بريدا جائيا- و هو أربعة فراسخ- في يوم واحد أو في ما دون عشرة أيّام، فعلى من سافره عند آل الرسول إذا خلف حيطان مصره أو قريته وراء ظهره و خفى صوت الأذان يصلى الصّلاة في السفر ركعتين.

و الظاهر ممّا نقل من كلامه هو عدم اعتبار كونه مريد الرجوع ليومه في وجوب القصر عليه في ما نحن فيه.

و الظاهر أن ذكر إقامة العشرة يكون من باب المثال، فلا فرق في عدم وجوب القصر عليه بينها و بين غيرها، اعني: يجب القصر عليه و إن لم يرجع ليومه إلّا إذا قطع سفره بقاطع من قصد إقامة عشرة أيّام في رأس أربعة فراسخ، أو بقاء ثلاثين يوما متردّدا فيه، أو بلوغه الى وطنه.

و اختار هذا القول السيّد بن طاوس رحمه اللّه في كتابه المسمى بالبشرى و هذا القول هو مختار الشّيخ عماد الدين حلبي رحمه اللّه، على ما يظهر من عبارته في كتابه المسمى «باشارة السبق» و هذا عين عبارته: و الذي يلزمه التقصير كل مسافر كان

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 135

سفره إمّا طاعة أو مباحا بلغ بريدين فصاعدا- و هما ثمانية فراسخ- أربعة و عشرون ميلا، لأنّ الفرسخ ثلاثة اميال، و الميل ثلاثة آلاف ذراع، أو كانت مسافته بريدا و رجع ليومه، و لا ينوي الإقامة في البلد الّذي يأتيه عشرة أيّام، و لم يكن حضره أقل من سفره» بناء على كون ما صدر منه و كتب في كتابه لفظ «أو» لا لفظ «و» قبل قوله «لا ينوي الإقامة في البلد الّذي يأتيه

عشرة ايام».

لأنّه على هذا يكون معنى كلامه أن فردا من السفر الموجب للقصر يكون بريدا إذا رجع ليومه، أو انّه و لو لم يرجع ليومه لكن لم يقصد الإقامة في المقصد، فعلى هذا يستفاد من كلامه أن الرجوع ليومه لا يعتبر في القصر في ما كان البعد بين المنزل و المقصد بريدا، بل لو لم يرجع ليومه يجب عليه القصر بشرط أن لا ينوى الاقامة في المقصد، اعنى: لا يحصل أحد قواطع السفر، لعدم خصوصية، كما قلنا، في قول ابن أبى عقيل رحمه اللّه بين قصد إقامة العشرة و ساير قواطع السفر.

و أمّا ما قلنا من أن عبارته كانت «أو» لا «و» فلانه لا معنى لأنّ يقول: أو كانت مسافته بريدا و رجع ليومه، و لا ينوى الإقامة في البلد الّذي يأتيه عشرة أيّام، لأنه من يرجع ليومه من المقصد الى المنزل كيف ينوي الإقامة في المقصد، فهذا شاهد على أن كلامه يكون «أو» لا «و».

و على كل حال قول ابن ابي عقيل رحمه اللّه القول الثالث في المسألة، و نسبة هذا القول إليه تكون من العلّامة رحمه اللّه لأنّ عنده كان كتاب ابن أبي عقيل رحمه اللّه المسمى «بالتمسك بحبل آل الرسول» و لم يكن عند غير العلّامة رحمه اللّه، لابن أبي عقيل رحمه اللّه كتابين:

الأوّل منه الكتاب المسمى «بالتمسك بجبل آل الرسول» الّذي كان عند العلّامة ره و الثاني كتاب الكر و الفر في الكلام و الامامة، و نقل النجاشي رحمه اللّه ان المفيد رحمه اللّه يكثر

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 136

الثناء على هذا الرجل، و قال النجاشي أيضا نقلا عن ابن قولويه بان ابن ابي عقيل يجيز لي كتاب المتمسك و

ساير كتبه «1».

[القائلين بالتخيير بين قولين]

و لا يخفى عليك أن القائلين بالتخيير أيضا بين قولين:

القول الأول: التخيير في غير مريد الرجوع ليومه مطلقا، اعنى: في الصّلاة و في الصوم و هو مختار المفيد رحمه اللّه.

القول الثاني: التخيير في غير مريد الرجوع ليومه في خصوص الصّلاة، و هو اختيار الشّيخ رحمه اللّه فانّه قال بالتخيير في غير مريد الرجوع ليومه في خصوص الصّلاة، و أمّا الصوم فيكلفه الافطار و أن لا يصوم في هذا الفرض.

إذا عرفت ذلك نقول، كما قلنا إنه إذا راجعنا أخبار الباب نجدها موافقة لقول ابن أبي عقيل رحمه اللّه، و لكن اختيار هذا القول مشكل مع الشهرة المخالفة معه.

و هل يكون في البين وجه يساعد مع فتوى المشهور أو لا؟

اعلم أن ما يمكن أن يكون مستند المشهور روايات نعطف الكلام فيها حتى نرى انّه يمكن التعويل عليها، و الاخذ لما هو فتواهم، أو لا يوجد ما يمكن التعويل عليه فنقول:

الرواية الأولى: الرواية المسطورة في كتاب فقه الرضا عليه السّلام المنسوب الى جنابه، فإن في هذه الرواية «نقلت عبارة هذه الرواية من الجواهر» «2» قال: فإن كان سفرك بريدا واحدا، واردت أن ترجع من ذلك قصرت، لأنّ ذهابك و مجيئك

______________________________

(1)- رجال نجاشى، ص 48.

(2)- جواهر الكلام، ج 14، ص 211.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 137

بريدان، الى أن قال: فإن لم ترد الرجوع من يومك فانت بالخيار إن شئت تممت، و إن شئت قصرت.

و دلالة هذه العبارة- التي ادعيت كونها رواية، بناء على كون فقه الرضا من الرضا عليه السّلام- على فتوى المشهور واضح، و لكن الاشكال في كون فقه الرضا من الرضا عليه السّلام، إذ كون هذا الكتاب منه عليه السّلام غير معلوم، و

إن تصدى بعض العلماء يصحح النسبة إليه عليه السّلام، و لكن ليس لنا دليل على صحة الانتساب، و لم يعلم كونه من الرضا عليه السّلام.

و إن شهد بعض بأخذ هذا الكتاب من بعض القميين في مكة، و انّه ادعى كون فتاوى علي بن بابويه القمى موافقة معه، و لكن مع ذلك لا يمكن الاعتماد عليه من باب كونه من كلام الامام عليه السّلام، بل قال السيّد حسن الصدر الكاظمي رحمه اللّه: بأن هذا الكتاب هو كتاب الشلمغانى المعروف، و لا يبعد أن يكون من تأليفات أحد من السابقين لا من كلام الرضا عليه السّلام، فبعد عدم الاعتماد على كتاب فقه الرضا لم يبق مجال للعمل بهذه الرواية المنقولة في هذا الكتاب.

الرواية الثانية: الرواية الّتي رواها محمد بن مسلم أمّا الرواية بنقل الشّيخ في التهذيب فهكذا: عن محمد بن مسلم، عن ابي جعفر عليه السّلام (سألته عن التقصير، قال: في بريد، قال: قلت: بريد؟ قال: إنه ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه). «1»

و لكنه نقلها فى الوسائل هكذا: (عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن التقصير قال: في بريد، قلت: بريد؟ قال: إنه ذهب بريدا و رجع بريدا فقد

______________________________

(1)- الرواية 9 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 138

شغل يومه). «1»

[في الاستدلال بالرواية لكون الرجوع ليومه فى المسافة الملفقة]
اشارة

هذا متن الحديث، و أمّا وجه دلالتها على كون الرجوع ليومه، فهو أن يقال:

إنّ أبا جعفر عليه السّلام بعد تعجب السائل من قوله بأن التقصير في بريد قال: إنه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه، فاعتبر شغل اليوم في السفر الّذي الّف من ثمانية فراسخ ملفقة، و ظاهر شغل اليوم

هو شغل اليوم بالفعل، فمعنى العبارة هو أن يشغل يومه بسفر بالذهاب و الاياب، هذا بيان الاستدلال.

[في ذكر الاحتمالين للمطلب]

و نقول توضيحا للمطلب بأن في الرواية احتمالين:

الاحتمال الأول: أن يقال: بأن السائل بعد ما سمع من ابي جعفر عليه السّلام بأن التقصير في بريد تعجب من ذلك، لأنّ ما كان مغروسا في ذهنه هو كون السفر الموجب للقصر في بريدين، فاجاب عليه السّلام و ارتفع تعجبه بقوله (إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه) اعني: يحصل ما هو في ذهنك في بريد أيضا، لأنه يذهب بريدا و يرجع بريدا، فيتحقّق البريدان، و قوله (فقد شغل يومه) بعد ذلك يكون مثل ذكر مسيرة يوم، أو بياض يوم الوارد في بعض الأخبار الاخر، فيكون لسان شغل اليوم مثل مسيرة يوم أو بياض يوم اعني: منشأ اعتبار جعل هذا الحد موجبا للقصر هو أنه مسيرة يوم، أو بياض يوم أو شغل يوم، فكما انّه لا عبرة بحصول مسيرة يوم، أو بياض يوم فعلا في تحقق السفر في اليوم الأوّل كذلك شغل اليوم لا يلزم حصوله فعلا في تحقّق السفر للقصر في بريد ذاهبا و بريد جائيا اعني: ثمانية فراسخ ملفقة.

و لهذا لو كان البعد بين المنزل و المقصد ثمانية فراسخ لا يعتبر أن يسيره في اليوم

______________________________

(1)- أقول: و حيث إنّ صاحب الوسائل نقلها عن الشّيخ رحمه اللّه، و نقلنا ما نقله الشّيخ فيكون متن الرواية هو ما نقله الشيخ رحمه اللّه. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 139

الأول، و لا يعتبر تحقق مسيرة يوم في اليوم الأوّل في وجوب القصر، بل يمكن أن يذهب أربعة فراسخ منها في اليوم الأول، و أربعة فراسخ منها في اليوم الثاني حتى يصل

الى المقصد.

كذلك لا يعتبر في ثمانية فراسخ ملفقة أن يكون السير بين المبدأ و المقصد و من المقصد الى المبدأ اعنى: الذهاب و الرجوع اعني: شغل اليوم، في يوم واحد، فعلى هذا الاحتمال ليست الرواية الا في مقام بيان كفاية ثمانية فراسخ ملفقة، لا في مقام اعتبار شغل اليوم بالفعل في هذا النحو من السفر، حتى يقال: بلزوم كون الرجوع ليومه حتى يحصل شغل اليوم بالفعل.

و لكن يبعد هذا الاحتمال ظهور قوله (شغل يومه) في شغل اليوم بالفعل، و لو أخذنا بهذا الاحتمال من الرواية فلا يمكن الاخذ بظهور (شغل يومه) و الحال أن هذا الكلام ظاهر في اعتبار فعلية شغل اليوم، فمع هذا الظهور لا يمكن الاخذ بهذا الاحتمال، لأنّ ظاهر الكلام هو رفع استبعاد السائل بأنّه بسبب ذهاب بريد و رجوع بريد يحصل ما هو محقّق السفر، و هو ثمانية فراسخ مع شغل اليوم بالفعل، و لا يناسب شغل اليوم بالفعل إلّا إذا كان الرجوع ليومه، لأنه إذا كان الذهاب و الاياب في يوم فقد شغل هذا اليوم بالسفر.

و أيضا يلزم أن يكون على هذا الاحتمال قوله عليه السّلام (فقد شغل يومه) غير لازم و يكون زائدا على المقدار اللازم في الجواب، لأنه إن كان وجه تعجب السائل من حيث كون المرتكز عنده من السفر الموجب للقصر البريدين فكان المناسب أن يكتفى عليه السّلام في مقام الجواب بقوله (لأنه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا فقد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 140

حصل البريدان). «1»

الاحتمال الثاني: و هو أن يقال: إنّ السائل بعد ما سئل عن التقصير و أنه في أي سفر يجب القصر؟ و اجاب عليه السّلام (في بريد) تعجب السائل من ذلك،

يمكن أن يكون منشأ تعجبه هو ما يرى خارجا عند المسلمين اعني: العامة من أنهم يقولون بالتقصير في يومين أو ثلاثة أيّام، أو كان في ارتكازه أن السفر إذا صار بمقدار مسيرة يوم اعنى: في المرحلة الّتي تكون متعارفا في كل يوم و ليلة للمسافرين، يجب فيه القصر و قطع البريد لا يصير بهذه المرحلة، فاجاب عليه السّلام بأنّه (إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه بالسفر) اعنى: يكون الميزان شغل اليوم، و هو حاصل في بريد ذاهبا و بريد جائيا، و لا يعتبر اليوم أو اليومين، بل المعتبر هو شغل يوم واحد، فاذا تحقق ذلك بالسفر يجب القصر، و هو يتحقّق في بريد ذاهبا و بريد جائيا، فيستفاد على هذا من الرواية لزوم شغل اليوم بالفعل في المسافة الملفقة من أربعة فراسخ ذهابية و أربعة فراسخ إيابية، و شغل اليوم بالفعل لا يتحقّق إلّا بالرجوع ليومه.

[فى المسافة الامتدادية لا يلزم شغل اليوم بالفعل]

و لا يعتبر ذلك اعنى: شغل اليوم فعلا في ثمانية فراسخ امتدادية، لعدم كون الثمانية فراسخ امتدادية في موجبيتها لوجوب القصر في السفر شغل اليوم بالفعل، و لذا لو ذهب أربعة فراسخ منها في اليوم الأول، و أربعة فراسخ اخرى منها في اليوم الثاني مثلا فبلغ بمقصده، فليس مضرا في وجوب القصر.

______________________________

(1)- اقول: إلّا أن يقال: إن الجواب كما يمكن بنفس ما هو مورد ارتكاز السائل اعني:

البريدين بأن يجاب إذا ذهب بريدا و رجع بريدا حصل البريدان، كذلك يناسب الجواب بلازم ذلك، و ما هو منشأ اعتباره و هو شغل اليوم مثل ما قال تارة ثمانية فراسخ، و تارة مسيرة يوم، فلا يرد هذا الايراد على هذا الاحتمال، لأنه ليس على هذا ذكر شغل يومه زائدا. (المقرّر)

تبيان

الصلاة، ج 1، ص: 141

بل هذا القيد على هذا الاحتمال دخيل في ثمانية فراسخ ملفقة، لأنّ المستفاد من رواية محمد بن مسلم على هذا الاحتمال هو كون وجوب القصر في السفر المؤلف من ثمانية فراسخ ملفقة مقيّدا بشغل اليوم بالفعل، و هو لا يتحقق الا فيما رجع المسافر ليومه.

و لا بأس بذلك لأنّ عدم دخل هذا القيد في ثمانية فراسخ امتدادية يكون من باب عدم الدليل على اعتباره، بخلاف ثمانية فراسخ ملفقة فإن اعتبار هذا الشرط فيها يكون من باب دلالة رواية محمد بن مسلم على هذا الاحتمال اعني: الاحتمال الثاني فثمانية فراسخ ملفقة موجبة للقصر على هذا الاحتمال بشرط كون الرجوع ليومه.

و هذا الاحتمال بعيد في هذه الرواية أيضا بل ابعد من الاحتمال الأوّل.

أما أولا فلبعد اعتبار هذا القيد في خصوص ثمانية فراسخ ملفقة دون ثمانية فراسخ امتدادية، مع أن ظاهر ادلتها هو كون ثمانية فراسخ ملفقة مثل ثمانية فراسخ امتداديه في موجبيتها للقصر و بوزان واحد، كما يستفاد من الأخبار، لدلالتها على كون أربعة فراسخ ذاهبا و أربعة جائيا مثل ثمانية فراسخ في موجبيتها للقصر.

و أمّا ثانيا فلان الظاهر من جوابه عليه السّلام هو كون التعليل (بأنه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه) تعليلا بأمر ارتكازي يكون مرتكزا عند السائل، و ما هو مرتكز عنده ليس إلا ثمانية فراسخ امتدادية، أو مسيرة يوم، و هو عليه السّلام قال في جوابه (بأنه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه) اعني: حصل ما هو مرتكز عندك اعني: ثمانية فراسخ، أو مسيرة يوم، فكما لا يعتبر في ثمانية فراسخ امتدادية هذا الشرط اعنى: شغل اليوم بالفعل، فكذلك في ثمانية فراسخ ملفقة «هذا حاصل

ما

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 142

افاده- مد ظله- تقريبا في بيان الاحتمالين المتقدمين في هذه الرواية».

[لسان الرواية فى أى الاحتمالين]

ثمّ بعد ذلك هل يكون لسان الرواية احتمال الاول، فتكون الرواية غير دالة على اعتبار أمر غير ما افاده ساير الروايات الواردة في كفاية ثمانية فراسخ ملفقة في وجوب القصر في السفر، فلا يعتبر كون الرجوع فيها ليومه، أو يكون لسان الرواية هو احتمال الثاني اعني اعتبار كون الرجوع ليومه، و لزوم شغل اليوم بالفعل.

و بعبارة أخرى يكون لسان الرواية مثل لسان رواية زرارة بن اعين و هي هذه: (عن زرارة بن اعين قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التقصير فقال: بريد ذاهب و بريد جائي قال: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اتى ذبابا قصر، و ذباب على بريد، و إنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ). «1»

فإن هذه الرواية تدلّ على أن القصر في بريد ذاهب و بريد جائي، ثمّ استشهد بفعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مسافرته الى ذباب، بأنّه إذا اتى ذبابا قصر، لأنّ ذباب على بريد، فهو صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا رجع صار سفره بريدين ثمانية فراسخ.

و إن قيل: بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعله كان يرجع ليومه من ذباب، فإن أبا عبد اللّه عليه السّلام استشهد بفعله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و فعله غير معلوم، فيحتمل أن يكون راجعا ليومه، فمن هذه الرواية أيضا لا يمكن استفادة عدم اعتبار كون الرجوع ليومه حتى يقال: إنّ لسان رواية محمد بن مسلم مثلها في عدم

الدلالة على لزوم كون الرجوع ليومه.

نقول: بأن ظاهر رواية زرارة الاطلاق من هذا الحيث اعنى: لا يقيد فيها كون

______________________________

(1)- الرواية 15 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 143

الرجوع ليومه، و استشهاد الامام عليه السّلام بفعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و فعل النبي ليس شاهدا على كون رجوعه من ذباب ليومه.

أمّا أولا فلأنّه من البعيد انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم كلّما ذهب الى ذباب كان يرجع ليومه، مع أن الظاهر من لسان الرواية كان يذهب الى ذباب مكررا، لدلالة قوله: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا اتى ذبابا على ذلك.

و ثانيا: استشهاد الامام عليه السّلام بفعله صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليس إلّا في ما افتى به من كون القصر في بريد ذاهب و بريد جائى، و ليس استشهاده من هذا الحيث اعني اعتبار الرجوع ليومه، و لذا قال في مقام ذكر فعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم «و إنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ» فهذه الرواية تدلّ بإطلاقها على عدم لزوم كون الرجوع في ثمانية فراسخ ملفقة ليومه.

فكان الغرض بعد ذلك في أن لسان رواية محمد بن مسلم مثل هذه الرواية، فلا دلالة لها على دخل الرجوع ليومه في السفر الّذي يكون مركبا من بريد ذاهب و بريد جائي، أو ليس كذلك، و على كل حال تكون ظهور رواية محمد بن مسلم في أي من الاحتمالين.

فهل نأخذ بظهور قوله (شغل يومه) و نقول، بعد كونه ظاهرا في شغل اليوم بالفعل، يجب القصر في هذه

المسافة في خصوص صورة كون الرجوع ليومه، بمعنى وقوع تلك المسافة في اليوم الأوّل فعلا لا تقديرا.

أو نقول: بأن الظاهر كون التعليل الى أمر مرتكز عند السائل، و ليس المرتكز إلا ثمانية فراسخ اعني: بريدين أو مسيرة يوم، فكان جواب الامام عليه السّلام ناظرا الى حصول ذلك بذهابه بريدا و رجوعه بريدا في ما إذا ذهب بريدا و رجع بريدا، و لا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 144

يعتبر تحقّق ذلك بالفعل، فلا يعتبر كون الرجوع ليومه.

و بعد اللتيا و التي، فالاخذ بالاحتمال الثاني، و تقويته في هذه الرواية مشكل، كما أن دعوى ظهور الرواية في الاحتمال الأوّل أيضا مشكل.

اللهم إلّا أن يقال: بأن غاية ما يمكن أن يقال: هو كون لسان الرواية، هو انّه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه، و هذا اللسان لا يدل إلّا على انّه في فرض ذهاب بريد و رجوع بريد يحصل شغل اليوم بالفعل، لاقتضاء قضية الشرطية و هى إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه ذلك، و هذا غير دال على لزوم تحقق الرجوع و حصوله في يومه، لعدم دلالة هذه القضية على اعتبار شغل اليوم بالفعل في وجوب القصر، لأنّ صدق الشرطية متوقف على وجود الجزاء و حصوله على تقدير حصول الشرط، و لا يتوقف صدق الشرطية على حصول الشرط و الجزاء فعلا، فتدل هذا القضية على حصول شغل اليوم بالفعل على تقدير حصول الذهاب و الاياب، و صدق الشرطية متوقف على هذا المقدار اعني: حصول الجزاء في فرض حصول الشرط، و لا يعتبر في صدق الشرطية حصول بريد ذاهب و بريد جائي و لا شغل اليوم بالفعل، و هذا واضح، فتدل الرواية على كفاية

كون البعد بين المنزل و المقصد بريد لحصول شغل اليوم لو فرض انّه إذا ذهب بريدا يرجع بريدا، و لكن لا تدلّ على لزوم تحصيل هذا الفرض اعني: الرجوع و الذهاب، في يومه.

هذا حاصل ما أفاد سيدنا الأستاد مد ظله في هذه الرواية، و لم يرجح أحد الاحتمالين على الآخر، و لم يختر أحدهما. «1»

______________________________

(1)- أقول و اعلم أنّ هذه الرواية على تقدير دلالتها على اعتبار كون الرجوع فى ما نحن-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 145

[ممّا استدل لفتوى المشهور ما نقل من فعل امير المؤمنين ع]

الرواية الثالثة: ممّا استدل به لفتوى المشهور هو القضية المنقولة من فعل امير المؤمنين عليه السّلام من انّه لما خرج الى النّخيلة، فصلى بهم الظهر ركعتين، ثمّ رجع من يومه.

وجه الاستدلال هو انّه عليه السّلام صلّى صلاته ركعتين اعني: قصر الظهر: لأنه خرج من الكوفة الى النّخيلة، و رجع الى الكوفة من يومه، فهو قصر في ثمانية فراسخ ملفقة لكونه مريد الرجوع ليومه، فمن هنا نستكشف اعتبار كون الرجوع ليومه في ما نحن فيه.

و فيه، مع قطع النظر عن التكلم في سندها، نقول: أولا بأنها لا تدلّ الا على أن امير المؤمنين عليه السّلام في سفره الى النّخيلة رجع ليومه، و صرف رجوعه ليومه في سفر لا يدل على لزوم الرجوع في وجوب القصر، لأنّ المدعى ليس عدم جواز الرجوع حتى يستدل بفعله عليه السّلام، بل لا يلزم الرجوع في وجوب القصر، و فعله عليه السّلام ليس مخالفا مع ذلك.

______________________________

فيه ليومه فتدلّ على دخل الرجوع ليومه في وجوب القصر فقط و لا دلالة لها على التخير بين الاتمام و القصر كما هو مذهب المشهور فى غير مريد الرجوع ليومه فعلى تقدير دلالتها و حملها على احتمال الثاني تدلّ على

جهة من فتوى المشهور و هي دخل الرجوع ليومه فى وجوب القصر فى ثمانية فراسخ ملفقة و غير دالّة على جهة الاخرى من فتواويهم و هى التخير بين القصر و الاتمام لغير مريد الرجوع ليومه بل على هذا الاحتمال تكون الرواية بفتوى السيد المرتضى و ابن ادريس قدس سرهما اوفق لأنّها تدلّ على دخل كون الرجوع ليومه في وجوب القصر، فهذا الحيث من فتواهما موافق مع هذه الرواية، و حيث الآخر أعني: وجوب التمام لغير مريد الرجوع فبمقتضى القاعدة اعني: لزوم التمام، و كان بحث سيدنا الأستاد مد ظله أيضا في أن هذه الرواية هل تدلّ على اعتبار الرجوع ليومه في وجوب القصر أم لا، و لم يتكلم في حيث الآخر اعني، في وجه التخير بناء على فتوى المشهور في غير مريد الرجوع ليومه. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 146

[المورخون و الناقلين ليسوا فى مقام بيان الجهات]

و ثانيا إن ناقل هذا الفعل منه عليه السّلام هو المورّخ، و ناقل الوقائع و المورّخون ليسوا في مقام بيان هذه الجهات اعني ذكر الاحكام و الخصوصيات الدخيلة في اثبات الحكم أو نفيه، فلا يمكن التعويل بكلامهم لما نحن بصدده من استفادة الحكم الشرعى.

ثمّ إن بعض الاخبار المتعرضة في هذا المقام في بعض الألسنة فغير دالة على فتوى المشهور أيضا.

إذا عرفت حال ما يمكن الاستدلال به لتقييد الثمانية فراسخ الملفقة في موجبيتها للقصر بإرادة الرجوع ليومه.

نقول: إنه لا يبقى في المقام مخالف للاخبار الدالة بإطلاقها، أو بصراحتها على عدم اعتبار كون الرجوع ليومه في مسئلتنا إلا فتوى المشهور، لانهم أفتوا على أن خصوص مريد الرجوع ليومه عليه القصر، و أما غير مريد الرجوع ليومه فهو مخير بين القصر و الإتمام، و قال السيّد المرتضى و

ابن إدريس بالقصر فيمن اراد الرجوع ليومه و الإتمام لغير مريد الرجوع ليومه، و ادعى ابن إدريس الاجماع على ذلك.

فكلهم اعني: المشهور و السيّد المرتضى و ابن إدريس متفقون في وجوب القصر لخصوص من اراد الرجوع ليومه فقط، على خلاف ابن أبي عقيل رحمه اللّه القائل بوجوب القصر سواء اراد الرجوع ليومه أو لا، لأنهم متفقون على خلافه من هذا الحيث و إن كانوا مختلفين في غير مريد الرجوع ليومه، لأنّ المشهور قائلون بالتخيير، و هما قائلان بالاتمام.

فعلى هذا هم جميعا يختلفون مع ابن ابي عقيل رحمه اللّه في المسألة من حيث انهم

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 147

يعتبرون في وجوب القصر إرادة الرجوع ليومه بخلافه، ففي هذا الحيث اعني: اعتبار شرط إرادة الرجوع ليومه في وجوب القصر لا خلاف بين المشهور و بين السيّد و ابن إدريس لإطباقهم على ذلك، فالشهرة و فتواهم على خلاف ابن أبي عقيل رحمه اللّه.

و إنّا إذا راجعنا أخبار الباب نرى دلالة بعضها بالإطلاق و دلالة بعضها كروايات عرفات بالصراحة على مذهب ابن أبي عقيل اعني عدم اشتراط وجوب القصر بإرادة الرجوع ليومه.

و إذا راجعنا الى المشهور نرى فتواهم باعتبار هذا الشرط، و رفع اليد عن مختار المشهور و اختيار ما تدلّ عليه أخبار الباب من عدم اعتبار هذا الشرط مشكل، لأنّ المشهور مع كونهم بانين على الاقتصار بذكر الفتاوى المتلقاة عن المعصومين عليهم السّلام كيف افتوا كذلك؟ و كيف غفلوا عن هذه الأخبار؟ و كيف افتوا بهذه الفتوى بلا وجود مدرك و مستند معتبر عندهم؟

فمن هنا نتفرس بأن هذه الفتوى منهم كانت من باب مستند لم يصل إلينا، فعلى هذا كما قلنا سابقا بالاحتياط بين القصر و الإتمام

في غير مريد الرجوع ليومه و أمّا فيمن اراد الرجوع ليومه فلا اشكال في وجوب القصر عليه.

ثمّ أنّه لو قلنا باعتبار كونه مريد الرجوع ليومه، و لزوم شغل اليوم بالفعل في السفر المؤلف من بريد ذاهب و بريد جائى، فليس المراد من اليوم هو خصوص اليوم في مقابل الليل بحيث إنّه لو وقع هذا السفر في الليل، أو ملفقا من النهار و الليل لم يحصل محقّق القصر، حتى نحتاج الى التكلم في أن ما هو المراد باليوم هل هو من طلوع الفجر الى المغرب أو ليس كذلك؟

أو نتكلم عن أن المراد باليوم هو اليوم من الأيّام الطوال مثل أيّام الصيف او

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 148

لا، حتى يقال: بأن المراد من اليوم هو اليوم المعتدل مثلا أول يوم الخريف أو الربيع.

[ليس المراد من اليوم مقابل الليل بل المراد مقدار السير]

بل نقول: بأن المراد بشغل اليوم في رواية محمد بن مسلم، أو مسيرة يوم، أو بياض يوم في بعض الروايات الاخر، لبس هو اليوم في مقابل الليل، بل المراد من ذلك هو المرحلة المتعارف فيها عند المسافرين و القوافل للسير بقدر هذه المرحلة في كل يوم و ليلة، أعني: أنّ المسافرين يكون المتعارف عندهم أن يسيروا في سفرهم في كل يوم و ليلة مرحلة و مقدارا و يتوفقون مرحلة و مقدارا للاستراحة، و هم تارة يسيرون في الليل و تارة في النهار و تارة في الملفق من الليل و النهار و ليس الأمر بحيث كان سفرهم في النهار فقط من أوله الى آخره، فهذه المرحلة الّتي يكون السير فيها متعارفا يكون المراد من (اليوم) في مسير اليوم، أو بياض اليوم، أو شغل اليوم.

فعلى هذا ما هو الظاهر من سير اليوم هو المرحلة المتعارفة

من السير في كل يوم و ليلة عند المسافرين، فعلى هذا و لو اعتبرنا شغل اليوم بالفعل في السفر الملفّق من بريد ذاهب و بريد جائى، أو قلنا بكفاية مسيرة يوم، أو بياض يوم في مقابل ثمانية فراسخ امتدادية، كما نتعرض له، فليس المراد هو شغل تمام اليوم أو سير تمام اليوم بالخصوص بحيث لا يكتفى بشغل الليل، أو المسير في الليل، بل المراد هو قطع المرحلة المتعارفة بين المسافرين في كل يوم و ليلة، سواء وقع في اليوم، أو في الليل.

ففي مسألتنا نقول: بأنّه على تقدير اعتبار شغل اليوم بالفعل يكون المراد هو قطع المرحلة المتعارفة في النهار و ليل الاول، بمعنى انّه إذا ذهب بريدا كان رجوعه في نهاره أو ليلته أعني: قطع هذين البريدين في هذا النهار و الليل، فافهم. «1»

______________________________

(1)- أقول: إذا عرفت ذلك كله في هذه المسألة نقول: إن سيدنا الاستاذ- مد ظله- و إن لم-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 149

[المراد من التحديدات فى المسافة واحد]

المسألة الثالثة: من راجع أخبار الباب يرى أن الظاهر منها جعل التحديد في السفر الموجب للقصر بامور، ففي بعضها حدّ السفر الموجب للقصر بثمانية فراسخ، و في بعضها بالبريدين، و في بعضها بأربعة و عشرين ميلا، و في بعضها بمسيرة يوم، و في بعضها ببياض يوم، و في بعضها ذكر بعض منها مع البعض الآخر مثل قوله: «في رواية سماعة في مسيرة يوم، و هي ثمانية فراسخ»، أو في رواية أبي أيوب «في بريدين أو بياض يوم»، و غير ذلك. و لا اشكال في كون المراد من ثمانية فراسخ و بريدين و أربعة و عشرين ميلا أمرا واحدا؛ لأنّ البريد عبارة عن أربعة فراسخ، و وجه اطلاق البريد هو

أنه:

إمّا من البرد بمعنى الكتابة، فسمّى البريد اعني: من حمل الكتاب من محل

______________________________

يرفع اليد عن الاحتياط في غير مريد الرجوع ليومه، و لكن بنظري القاصر فعلا هو عدم دخالة هذا الشرط، و أن قول ابن أبي عقيل رحمه اللّه اوفق بنظري، لأنّ الأخبار دالة عليه بالإطلاق و الصراحة، و رواية فقه الإمام الرضا عليه السّلام مع ضعف سندها كما قلنا غير معتبرة، و رواية محمد بن مسلم إن لم نقل بكون أقوى الاحتمالين فيها هو الاحتمال الأول، فلا أقل من اجمالها و عدم ظهورها في دخالة شرط إرادة الرجوع ليومه، فلم يبق في البين إلّا اختيار المشهور، و هم مع اختلافهم في غير مريد الرجوع ليومه لأنّ الشّيخ و بعض آخر قائلون بالتخيير و السيّد و ابن إدريس قائلان بالتمام و مع عدم وجدان مدرك لفتواهم بدخل إرادة الرجوع ليومه في وجوب القصر، فلم يمنعنا من اختيار قول المخالف لهم، و صرف انهم لا يفتون بشي ء بلا مستند صحيح لا يصير سببا لأنّ نختار قولهم عن عمى، لانهم لو أفتوا بذلك و إن كان عندهم مستند، فمن اين نعلم أن مستندهم كان بحيث إذا وصل إلينا كان حجة عندنا، و الحال أن كثيرا ما يتفق انهم عولوا على شي ء و افتوا بشي ء و الحال انّه ليس تماما عندنا، مع انّه قلنا بأنهم اختلفوا في المسألة في غير مريد الرجوع ليومه فمع ذلك كيف تبلغ دعوى الشهرة الى مرتبة صارت سببا لاختيار هذا القول؟ نعم، ينبغي الاحتياط في غير من اراد الرجوع ليومه بين القصر و الإتمام، فتأمّل. (المقرر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 150

و يوصله الى محل آخر بريدا، لأنّه يحمل الكتاب، أو كان اطلاق

البريد على البريد من البرد في مقابل الحرّ فإنّ البريد حيث كان يسير في الليل وقت البرودة فسمي بريدا، ثمّ بعد تسمية الشخص الحامل للكتاب و بالفارسية «چاپار» بريدا فسمي مقدار من المسافة اعني: أربعة فراسخ اعني: اثنا عشر ميلا بالبريد، لأنّ البريد يسافر و يتوقف في رأس هذا المقدار، و يعاوضون البرد في رأس هذا المقدار مراكبهم و بالفارسية «در سر هر چهار فرسخ مال بند بود كه اسبها يا در اواخر اسب گاريها را عوض مى كردند» فلهذا سميت هذه المسافة بريدا هذا وجه اطلاق البريد بالمسافة الّتي تكون أربعة فراسخ.

و أمّا وجه التعبير بالفرسخ، فإن عند الفرس كان لفظ «فر» بمعنى الجمع و لفظ «سنگ» أيضا معروف، و حيث إن في الطرق أجمعوا احجارا للعلامة بأن هذا رأس الحد الّذي سمي بعدا بفرسخ، فسميت المسافة بين كل مجتمع من هذه الاحجار في الفارسية «به فرسنگ» فصار هذا اللفظ معربا فبدل لفظ الگاف بخاء و اسقطت نونه فقيل له فرسخ، فهذا وجه تسمية الفرسخ.

بالفرسخ و أمّا وجه تسمية الميل فقد قسموا الناس البعد الواقع بين كل فرسخ بثلاثة اقسام، و و نصبوا في رأس كل قسم ميلا من الاحجار أو غيره، فتسمى المسافة الواقعة بين ميل الى ميل آخر أيضا ميلا لهذه المناسبة.

[ما المراد من البريد و الفرسخ و الميل]

فقد ظهر لك وجه تسمية المسافة المخصوصة بالبريد، و المسافة المخصوصة بالفرسخ، و المسافة المخصوصة بالميل، فالبريد أربعة فراسخ، و الفرسخ ثلاثة اميال، و البريدين ثمانية فراسخ، فمرجع ثمانية فراسخ و البريدين و أربعة و عشرين ميلا الى أمر واحد اعني: ليس إلا شيئا واحدا، لأنّ كل فرسخ ثلاثة اميال فصار أربعة و

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 151

عشرين ميلا، و

ثمانية فراسخ إذا ضرب ثلاثة اميال في ثمانية، و يصير البريدان أيضا ثمانية فراسخ، لأنّ كل بريد أربعة فراسخ، فصار البريدان ثمانية فراسخ.

و أمّا مسيرة يوم مع بياض اليوم الّذي عبر بهما في بعض الأخبار فهما أيضا أمر واحد، و حدّ واحد لأنّ المراد بكل منهما كما اشرنا سابقا هو مقدار من المسافة التي يسير فيها المسافرون في كل يوم و ليلة متعارفا، و بعبارة اخرى من يسافر سفرا فكان المرسوم أن يسير في كل يوم و ليلة مرحلة، و يمكث مرحلة لرفع زحمة السير و للاستراحة، و مسيرة اليوم أو بياض اليوم عبارة عن المرحلة المتعارفة للمسافر للسير في كل يوم و ليلة، سواء وقعت هذه المرحلة في النهار، أو في الليل، أو الملفق منهما لأنّ هذا هو المراد منهما بحسب ظاهر الأخبار، لا أن يكون المراد خصوص المسيرة الواقعة في اليوم، بل و لا أن يكون المراد هو السير المقدر بقدر تمام اليوم، بل المراد ما هو المتعارف من السير في كل نهار و ليلة للمسافرين، فعلى هذا يكون المراد من مسيرة اليوم أو بياض اليوم أمرا واحدا، و هذا كله ممّا لا إشكال فيه.

إنما الإشكال في جهة اخرى و هو أنّه بعد دلالة بعض الروايات- على ما هو ظاهرها- على كون ثمانية فراسخ الّتي هي عبارة عن البريدين، و عن أربعة و عشرين ميلا حدا للقصر، و دلالة بعضها الآخر على كون مسيرة يوم المعبر عنها بياض يوم في بعض الروايات حدا للقصر.

[هل الحد خصوص كل واحد منهما او كلاهما]

فهل الحد هو خصوص ثمانية فراسخ و البريدين و أربعة عشرين ميلا، أو يكون خصوص مسيرة اليوم و بياض اليوم، أو يكون كليهما حدا للمسافة الموجبة للقصر بحيث إذا

حصل احدهما، يجب القصر و إن لم يحصل الآخر منهما، أو يكون الحد ثمانية فراسخ و يكون مسيرة يوم أمارة على حصول هذا الحد، أو يكون كل

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 152

منهما حدا للقصر، و متى يوجد احدهما يوجد الآخر اعنى: يكون كل منهما موجودا بوجود الاخر.

[الحق كونها أمرا واحدا اذا وجد أحدهما وجد الاخر]

الحقّ هو كونهما امرا واحدا بحيث إذا وجد احدهما يوجد الآخر فاذا حصلت ثمانية فراسخ حصلت مسيرة يوم و بالعكس، و الدليل على ذلك ما نرى في بعض أخبار الباب من جعلهما شيئا واحدا مثل رواية 8 من الباب 1 من أبواب الصّلاة المسافر من الوسائل، و هي رواية سماعة قال: سألته عن المسافر في كم يقصر الصّلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، و ذلك بريدان و هما ثمانية فراسخ.

فهذه الرواية صريحة في أن مسيرة يوم عبارة عن البريدان و ثمانية فراسخ، لأنه قال (في مسيرة يوم، و ذلك بريدان و هما ثمانية فراسخ) فقد جعل مسيرة يوم عين البريدين، كما جعل البريدين عين ثمانية فراسخ.

و ما في بعض روايات الباب من التعبير بلفظ (أو) مثل رواية أبي بصير «1» قال: قلت: لأبى عبد اللّه في كم يقصر الرجل؟ قال: في بياض يوم أو بريدين، فلا تدلّ على كون بياض يوم غير البريدين، بل الرواية تدلّ على الاكتفاء في مقام التقصير بكل منهما، و لذا قال (في بياض يوم أو بريدين) و هذا غير مناف مع كونهما أمرا واحدا بحسب الواقع في كونهما حدّا، و حيث انهما أمر واحد فاذا قصر في بياض يوم فقد قصر في الحد و حصل البريدان أيضا و بالعكس. «2»

______________________________

(1)- الرواية 11 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- أقول: و

ما يخطر ببالى هو كون الحد الماخوذ عند الشرع في مقام القصر هو ثمانية فراسخ و اخواتها، اعنى: البريدين و أربعة و عشرين ميلا، لأنّ المستفاد من بعض أخبار الباب هو-

كون مسيرة يوم هو منشأ الاعتبار للحد، لا أن يكون هو نفس الحد اعنى: منشأ جعل الحد ثمانية فراسخ هو أن هذه المسافة تكون بقدر مسيرة يوم و مسيرة يوم، هو مقدار الّذي لاجله قصر الصّلاة، من باب أن في هذا المقدار يحصل الزحمة في السفر، و الشاهد هو رواية فضل بن شاذان و هي الرواية 1 من الباب 1 بنقل الوسائل، لأنّ المستفاد منها أن العلة في جعل ثمانية فراسخ حدا للقصر، هى كون هذا المقدار بمقدار مسيرة يوم، و الثمانية حد لأنه سئل عن علّة الحكم فإن كان الحكم في مسيرة يوم أيضا هو القصر فهو أيضا حكم لا علة الحكم، و من المعلوم من وضع الرواية أن المرتكز عند السائل هو كون الحكم ثمانية فراسخ، و لهذا سئل عن علته.

و ما قال سيدنا الأستاد مد ظله من أن سؤاله كان من باب ما كان بنظره من فتوى العامة من كون القصر في يومين أو ثلاثة أيّام، و لهذا اجاب المعصوم عليه السّلام بأنّه (توجب التقصير في مسيرة يوم، و لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة الف سنة، و ذلك لأنّ كل يوم بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم) فمن هذا يستفاد أن القصر يجب في مسيرة يوم أيضا

نقول: بأنّه و لو كان وجه سؤاله ما سمع من العامة، و لكن مع ذلك ما بين المعصوم عليه السّلام أولا في مقام حد القصر هو ثمانية فراسخ، و

ذكر في مقام علّة الحكم مسيرة اليوم، مضافا الى أن ظاهر الرواية هو أن الرضا عليه السّلام بين الحكم ابتداء لا انّه سئل أولا و هو عليه السّلام اجاب عنه بما اجاب.

و يؤيد ذلك الرواية 5 من الباب 1 من ابواب صلاة المسافر و هي رواية عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، فهو بعد ما سئل عن القصر و جواب الامام عليه السّلام بقوله (جرت السنة ببياض يوم) و قول السائل (إن بياض يوم يختلف يسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم، و يسير الآخر أربعة فراسخ و خمسة فراسخ في يوم) فقال عليه السّلام (إنه ليس الى ذلك ينظر، أمّا رأيت مسير هذه الاثقال بين مكّة و المدينة، ثمّ أومأ بيده أربعة و عشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ) فجعل الحد أربعة و عشرين ميلا و هو ثمانية فراسخ.

مضافا الى أن مسيرة يوم بعد اختلافها باختلاف الاشخاص و المراكب، فأى منها ميزان للحد؟-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 154

[المراد من الميل ما هو]

المسألة الرابعة: بعد ما عرفت من أن المستفاد من بعض أخبار الباب جعل ثمانية فراسخ، و البريدين، و أربعة و عشرين ميلا حدا للسفر الموجب للقصر إمّا من باب كونها هي الحد، أو هي مع مسيرة يوم، أو على نحو آخر على الكلام المتقدم في المسألة السابقة، يقع الكلام في ما هو المراد من الميل الّذي تكون ثلاثة منه فرسخا و أربعة و عشرين منه ثمانية فراسخ، و البريدين.

فنقول بعونه تعالى: إنّه قال في الشرائع: الميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد

______________________________

و إن قلت: بأن الميزان هو مسيرة يوم بحسب المتعارف.

فنقول: مع قطع النظر عن الاختلاف في المتعارف أيضا بأن المرجع في التحديدات

و موضوعات الأحكام الشرعية هو العرف إذا لم يصل من الشرع حدّ مخصوص له، و في المقام يكون كذلك لأنّ المستفاد من بعض روايات الباب هو كون ثمانية فراسخ حدا، خصوصا مع ما في ذيل هذه الرواية من الأمر بالنظر الى سير هذه الاثقال بين مكّة و المدينة بعد سؤال السائل عن اختلاف الواقع في السير، و الايماء بعد ذلك بيده أربعة و عشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ، فهو بين حد مسيرة يوم بثمانية فراسخ، فلا طريق لنا الى حصول مسيرة يوم إلّا بحصول ثمانية فراسخ.

و أيضا ممّا يدلّ على أن الميزان في القصر هو ثمانية فراسخ رواية أبي ولاد و هي الرواية 1 من الباب 5 من أبواب صلاة المسافر بنقل الوسائل، لأنّ المستفاد منها انّه مع فرض السائل بأني سرت يومي و في الليل قصدت الرجوع فهل اقصّر أم أتمّ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام. «إن كنت سرت في يومك الّذي خرجت فيه بريدا فكان عليك حين رجعت أن تصلي بالتقصير، لانك كنت مسافرا الى أن تصير الى منزلك، قال: و إن كنت لم تسر في يومك الّذي خرجت فيه بريدا فإنّ عليك أن تقضي كل صلاة صلّيتها في يومك ... الي آخره» فالمستفاد منها هو أن الميزان حصول البريد و لا يكون مسير اليوم ميزانا للقصر. و على كل حال التقصير في مسيرة يوم مع عدم حصول ثمانية فراسخ امتدادية، او تلفيقية، أو مع الشّك في حصول ثمانية فراسخ مشكل و إن كان الاحوط الجمع بين القصر و الإتمام في هذا الفرض. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 155

الّذي طوله أربعة و عشرون إصبعا تعويلا على المشهور بين الناس. «1»

[المراد من الذراع ليس ذراع اليد]

و لا

يخفى عليك أنّ المراد من الذراع ليس ذراع اليد، لأنّ ذراع اليد تختلف باختلاف الاشخاص في الطول و القصر، فكيف مع اختلافه يمكن أن يجعل حدا و به يحدد الميل؟

بل يحتمل أن يكون منشأ التعبير بالذراع في كلام أهل اللغة، هو أن أول زمان بنى الناس على تحديد الاجسام، و الاملاك، و الثياب، و تعيين مقدارها في مقام الاحتياجات من المعاملات و غيرها، اخذوا هذا المحدد من الذراع أعني: هو كان منشأ الحد و المقسم في مقام كمية الاشياء، و جعلوا جسما بقدر الذراع لهذا العمل، فعبر بعدا من هذا الجسم المحدد بالذراع لا أن يكون المراد من الذراع، المجعول آلة لهذا العمل هو خصوص ذراع اليد مطلقا بحيث يكون ذراع اليد مطلقا، ميزانا و منشأ الاعتبار، لأنّ ذراع اليد كما قلنا يختلف باختلاف الاشخاص في الطول و القصر، و نرى خارجا بأن هذه الآلة مختلفة، فبعضها أطول من ذراع، فليس المراد من الذراع هو خصوص ذراع اليد.

و إن قلت: ما قلت: من أن الذراع إن كان ذراع اليد فهو يصير باختلاف الاشخاص مختلفا في الطول و القصر، فكيف يجعل حدا، ليس تامّا لأنّ الميزان هو الذراع المتعارف.

فنقول: إن المتعارف من الذراع أيضا يختلف من حيث الطول و القصر، فلا يمكن أن يكون شي ء مختلف المصاديق حدا للاشياء الّتي ربما تختلف بحسب هذا

______________________________

(1)- جواهر الكلام، ج 14، ص 198.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 156

الاختلاف مبلغا كثيرا من حيث القيامة، مثلا في الأقمشة العالية، أو الاراضى الغالية فكيف يمكن جعل ذراع اليد محددا لكميتها، مع عدم تسامح النوع باختلافها و كونهم معتنين بهذه الاختلافات في مثل هذه الأمور.

و على كل حال الآلة الّتي يقدر بها

الكم المتصل من الاشياء، و يحدّ بها الاملاك، و الأثواب و غيرها، تختلف بحسب الكمّية في الطول و القصر، كما نرى الآن من التفاوت بين الذرع و المتر، فان الأوّل اطول من الثاني.

و يؤيد ما قلنا من عدم كون المراد من الذراع هو ذراع اليد، ما نقل عن المسعودي في كتابه المسمى بمروج الذهب فإنه قال: الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الاسود، و هو الذراع الّذي وضعه المأمون لذرع الثياب، و مساحة البناء، و قسمة المنازل، و الذراع أربعة و عشرون إصبعا انتهى» فهو عبر عن المقياس الّذي وضعه المأمون لذرع الثياب و غيره بالذراع، فهذا شاهد على أن المراد من الذراع غير ذراع اليد.

ثمّ بعد ما عرفت ذلك نقول: إن ما يظهر من كلماتهم، هو أن الميل ثلاثة آلاف ذراع، و هذا منسوب الى القدماء من أهل الهيئة.

و يظهر من المتأخرين أن الميل أربعة آلاف ذراع.

[يكون الاختلاف فى الميل لفظى]

و ربما يتخيل أن ضابط الميل مختلف عندهم، لأنّ القدماء من الهيويين يقولون ثلاثة آلاف ذراع، و المحدثين منهم يقولون: بكونه أربعة آلاف ذراع، فالمأخذ قول اى منهما، و لكن كما قيل يكون النزاع لفظيا.

لأنّ منشأ اختلافهم في كون الميل ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع، بعد اتفاقهم في كون الميل ستة و تسعون الف إصبع، هو أن القدماء حيث يقولون: بكون الذراع

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 157

اثنان و ثلاثون اصبعا، فاذا قسم الميل على رأي القدماء كل ذراع اثنان و ثلاثون اصبعا، كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع، و حيث أن المتأخرين يقولون: بكون الذراع أربعة و عشرين إصبعا فاذا قسم الميل على رايهم أربعة و عشرين اصبعا كان المتحصل أربعة آلاف ذراع، فلا يبقى اختلاف.

غاية الأمر أن

وجه تحديد القدماء للذراع باثنين و ثلاثين إصبعا، و وجه تحديد المحدثين للذراع بأربعة و عشرين إصبعا هو كان من باب اختلاف ذراعهم، اعنى: المقياس الّذي كان آلة لتعيين الكم المتصل من الاشياء، فحيث إن ذراع المتداول في زمان القدماء كان اطول، فكان الميل بحسب الذراع المتداول و المقياس الشائع في زمانهم ثلاثة آلاف ذراع لكون ذراعهم اثنان و ثلاثون إصبعا، و حيث أن الذراع و المقياس المتداول لذرع الأشياء كان في زمان المتأخرين اقصر منه، و كان بمقدار أربعة و عشرين إصبعا، فبهذا الذراع كان الميل أربعة آلاف ذراع، فليس في حد الميل اختلاف عندهم، الّا انّ كلهم متفقون في كون الميل ستة و تسعون الف إصبع، و ظهر لك أن الاختلاف الواقع لا يوجب اختلافا في تحديد الميل.

[في ذكر كلام صاحب القاموس فى المراد بالميل]

و ما يظهر من كلام صاحب القاموس حيث قال: الميل قدر مدّ البصر، و منار يبنى للمسافر، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد، أو مائة الف إصبع إلّا أربعة آلاف اصبع، أو ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ، هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء، أو اثني عشر ألف ذراع بذراع المحدثين انتهى.

أن الميل عبارة عن مد البصر يعني: مقدار المسافة الّذي يرى بضوء البصر و عبارة عن منار يبنى للمسافر، فقلنا: بأن أصل الميل عبارة عن العود المنصوب لإراءة الحدّ، ثمّ استعمل في المسافة الواقعة بين الميلين المنصوبين بهذه المناسبة،

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 158

فكلامه: من انّه منار يبنى للمسافر ناظر الى أصل معنى الميل، و قوله: أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد، فمراده لا بدّ أن يكون من هذه العبارة امّا مقدار الّذي يرى بضوء البصر، أو المسافة الّتي

لا تنتهي بحد قبل الميل أعني: المسافة بين الميلين، و إلّا إن كان مراده أن كل مسافة من الأرض متراخية بالغة ما بلغت فهو الميل، فلا يمكن الالتزام به، فلا بدّ من ارجاع كلامه إمّا الى المعنى الأول، و هو قدر مدّ البصر، و أمّا بالثانى و هو منار يبنى للمسافر.

[جعل الميل عبارة عن قدر مد البصر مشكل]

و أمّا جعل الميل عبارة عن قدر مد البصر، كما يظهر من كلامه، فهو مشكل لأنّه كما قلنا في الذراع أنّه يختلف باختلاف الاشخاص من حيث الطول و القصر، كذلك يختلف مقدار مد البصر باختلاف الأبصار، فكيف يمكن جعله حدا مع هذا الاختلاف، و مقياسا للميل نعم، يمكن أن يقال: بأن الميل الّذي بيّن حده بما قلنا سابقا يمكن رؤية مقداره بالبصر أعني: يرى هذا الحدّ غالبا بالبصر، لا أن يكون مد البصر أمارة عليه، بل هذا تحديد تقريبي لما هو الحدّ الحقيقى، فالميل أعني: أربعة آلاف ذراع و ثلاثة آلاف ذراع يكون مقدار مسافة يرى بضوء البصر تقريبا، و هذا التقريب ليس حدا بل الحد الحقيقي هو ما قدم ذكره.

[في ذكر بعض الروايات الواردة فى البريد و الميل]

و أمّا ما يظهر من بعض الروايات على خلاف ما ذكر من كون الميل ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع، أو الف و خمسمائة ذراع، و هي الرواية الّتي نقل عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى الخزّاز عن بعض اصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بينا نحن جلوس، و أبي عند وال لبنى أميّة على المدينة، إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قبيل، فسائلهم عن التقصير، فقال قائل منهم: في ثلاث، و قال قائل منهم: في يوم و ليلة، و قال قائل منهم روحة، فسألني فقلت له: إن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 159

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم: في كم ذلك؟ فقال:

في بريد، قال: و اي شي ء البريد؟ فقال: ما بين ظلّ عير الى فى ء و

عير، قال: ثمّ عبرنا زمانا ثمّ راى بنو امية يعملون أعلاما على الطريق، و أنّهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر عليه السّلام، فذرعوا ما بين ظلّ عير الى فى ء و عير، ثمّ جزّوه على اثني عشر ميلا، فكانت ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع كل ميل، فوضعوا الأعلام، فلمّا ظهر بنو هاشم غيّروا أمر بنى أمية غيرة لأنّ الحديث هاشمى، فوضعوا الى جنب كل علم علما). «1»

ففيها أن الميل عبارة عن ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع، و الرواية الّتي تدلّ على كون الميل الفا و خمسمائة ذراع، و هذه الرواية مرسلة، «2» و قد نقلها الصدوق، و ليست مسندة بسند الرواية السابقة، و على هذا قال الصّدوق بعد الرواية السابقة: و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام، فما ذكر فيها من كون الميل الفا و خمسمائة ذراع إمّا اشتباه من الصدوق أو من بعض نساخ من لا يحضر، و على كل حال لا يعبأ بهذه الرواية لكونها مرسلة.

و الرواية الاولى أيضا سندها ضعيف، لكون محمد بن يحيى الخزاز ممّن يروي من بعض مشايخ الخاصّة و كذا من العامة، مضافا الى انّه قال (عن بعض أصحابنا) و لم يذكر اسم هذا البعض، فالسند ضعيف، و مع قطع النظر عن ضعف السند فنقول:

إنه يمكن أن يكون اختلاف حد الميل المذكور فيها مع حدّ الّذي قدم ذكره من أربعة آلاف ذراع أو ثلاثة آلاف ذراع، كان من باب كون الذراع المعمول في زمان أبي عبد اللّه عليه السّلام بقدر يصل كل ميل الى ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع، كما انّه يحتمل أن

______________________________

(1)- الرواية 13 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 16 من الباب

2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 160

يكون هذا موافقا مع ذراع الهاشمى، فإن مع هذا الذراع يبلغ الميل تقريبا الى هذا المقدار فليست الرواية مخالفة مع التحديد المتقدم.

و أمّا ما رواها الكلينى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض اصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن حدّ الأميال الّتي يجب فيها التقصير، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل حد الأميال من ظلّ عير الى ظلّ و عير، و هما جبلان بالمدينة، فاذا طلعت الشّمس وقع ظل عير الى ظل و عير، و هو الميل الذي وضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليه التقصير» «1» فهل يكون السؤال فيها من عدد الاميال الّتي يجب القصر فيها، أو أن السائل يعلم بأن عددها أربعة و عشرون ميلا و لكن كان سؤاله عن حدها و أن مقدارها كم هو؟

و بعد ذلك هل يكون الجواب عن العدد أو عن حد الميل؟

[ما المراد من ذيل الرواية (وقع ظل عير)]

ثمّ ما المراد ممّا قال في ذيل الرواية بأنّه «فإذا طلعت الشّمس وقع ظل عير الى ظل و عير» و كيف يمكن فرض ذلك أعني فرض وقوع ظلّ عير الى في ء و عير، لانهما إن كانا متقابلين فكيف يفرض أن يكونا حين طلوع الشّمس ذا الظل، لأنّ كل واحد منهما يكون في طرف المشرق يفرض له الظل حين طلوع الشّمس الى المغرب، و أمّا الآخر فلا ففهم المراد من الرواية بحيث تطمئن النفس بصحة توجيه وجيه لها مشكل، و على كل حال لا يستفاد من هذه الرواية شي ء على خلاف ما ذكر من أهل

اللغة في بيان حد الميل حتى نأخذ به و نرفع اليد عما ذكروا في هذا المقام.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت تحديد الميل بالذراع و الاصبع.

______________________________

(1)- الرواية 12 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 161

فأعلم أنهم قالوا: بأن الاصبع سبعة شعيرات متوسطات إذا جعل بطن كل منها على ظهر الآخر.

و الشعير حدد بأنّه سبعة شعرات من شعر البرذون، فظهر لك ممّا مرّ حد الفرسخ و البريد و الميل الوارد في بعض روايات الباب، فأفهم.

المسألة الخامسة:
اشارة

بعد ما عرفت بأن المسافر يجب عليه القصر إذا بلغ سفره مسافة توجب القصر فيها فيقع الكلام في أمرين:

الأمر الأول: إذا شك في مسافة بأنها هل تبلغ بالحد السفر الموجب للقصر أعنى ثمانية فراسخ مثلا أم لا، فهل يجب الإتمام أو القصر؟

الأمر الثاني: يقع الكلام في أنّه هل جعل طريق لكشف الحد المجعول في السفر للقصر أم لا؟

أمّا الكلام في الأمر الأوّل:

فنقول: قال صاحب الجواهر رحمه اللّه يجب في صورة الشّك في بلوغ المسافة بحد القصر و عدم بلوغه، الاتمام و اكتفى في وجه ذلك بقوله (للأصل) و لم يذكر غير ذلك شيئا. «1»

[اصالة عدم وجوب القصر لا يثبت وجوب الاتمام]

و قال الهمداني رحمه اللّه في مصباح الفقيه بوجوب إتمام الصّلاة: لأصالة عدم تحقق الموجب للقصر فيجب إتمام الصّلاة، و بين اشكالا في جريان هذا الأصل و أجاب عنه.

______________________________

(1)- الجواهر، ج 14، ص 204.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 162

أمّا الاشكال فحاصله يرجع الى أن هذا الأصل انما يثبت به عدم وجوب القصر، لأنّ أثر هذا الاستصحاب ليس إلا عدم وجوب القصر، و هذا لا يثبت وجوب الإتمام، لأنّ اثبات وجوب الإتمام بهذا الأصل لا يصح إلّا بناء اعلى الأصل المثبت، لأنّ وجوب الإتمام مبني على عدم كون المسافة ثمانية فراسخ، و الأصل لا يثبت هذا اللازم إلّا على القول بالاصول المثبتة و لم نقل به، فمن إجراء أصالة عدم تحقق موجب القصر لا يمكن اخذ النتيجة لوجوب الإتمام.

و أما الجواب فهو أن مقتضى عمومات أدلة التكاليف وجوب الإتيان بصلوة الظهر مثلا أربع ركعات على كل مكلف، فالصّلاة المتعلقة بهم أولا و بالذات هي أربع ركعات، و بعد ورود الدليل بوجوب القصر في السفر خصص هذه العمومات بالمسافر، فتكون الصّلاة الظهر واجبة

على كل مكلف أربع ركعات إلّا لمن يصير مسافرا، و تحقق هذا الأمر الوجودي بالنسبة إليه اعني صار مسافرا.

و إذا شكّ في مورد في تحقق هذا الأمر الوجودى و عدمه، فحيث لم سابقا و كانت حالته السابقة العدم، فيستصحب في حال الشّك عدم تحقق هذا الأمر الوجودي أعني: السفر، و بعد استصحاب عدم حصول موجب السفر، فيجب عليه الاتمام بمقتضى العمومات الدالة على وجوب الإتمام، لأنّ ما خرج من هذه العمومات ليس إلّا من كان مسافرا، و بعد نفى هذا بالاصل بعدمه، فيجب عليه الإتمام لكون الشخص مكلفا بمقتضى العمومات باتيان الصّلاة أربع ركعات، و لم يكن خارجا عن العام و داخلا في حكم الخاص للأصل.

و ليس تنجز التكليف بالاتمام موقوفا على احراز أن السفر الصادر منه لم يبلغ حدّ المسافة حتى كان اللازم احراز هذا القيد العدمي أعني: عدم كون سفره بالغا الى

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 163

حدّ المسافة و لو بالأصل.

بل موضوع وجوب الاتمام ليس إلّا المكلف بلا شرط عنوان آخر إلّا إذا سافر بسفر بالغ الى حد مخصوص مجعول من الشارع، فبعد عدم حدوث ذلك أعني موضوع التخصيص بالأصل لما قلنا من أصالة عدم تحقق موجب القصر، فيجب الاتمام لوجود موضوعه و هو المكلف، و لارتفاع ما يمكن أن يكون مانعا في صورة الشك بالأصل، لأنّ السفر البالغ الى الحد المجعول كان رافعا للحكم المجعول من الإتمام على كل مكلّف، فاذا شك في أصل وجود هذا الرافع، أو في رافعية الموجود مثل ما نحن فيه، لأنه لم يدر المسافر بأنّه هل وجد الرافع أم لا، فبالاصل يحكم بعدم كون الموجود رافعا، فيترتب حكم العام بلا مانع فيجب الإتمام في الفرض.

و هذا

ليس من باب التمسك بالعام في الشبهات المصداقية حتى يقال بعدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية. «1»

لأنّا لم نقل: بأن ما شك في فرديته للعام أو الخاص يدخل تحت العام بمقتضى نفس العام، لأنّ هذا غير تام عندنا.

بل نقول: إن ذلك يكون ببركة الأصل، فما قلنا يكون من باب إحراز فردية العام في فرد بالأصل العملي، فيحرز بالأصل موضوع العام، ثمّ يشمله حكم العام كما أنّه إذا كان زيد سابقا عادلا ثمّ شككت في بقاء عدالته، فلا يحكم بنفس (اكرم العلماء) بوجوب اكرامه، لأنّ ذلك تمسك بالعام في الشبهات المصداقية، و لكن بعد كون حالته السابقة العدالة فببركة الاستصحاب تحكم بعدالته، فيشمله عموم (اكرم

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 725.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 164

العلماء) و ليس دليل التخصيص أعني (لا تكرم الفساق) مانعا عن ذلك لارتفاع المانع بالاصل.

[ليس العام معنونا بعنوان وجودى]

و لا يخفى عليك أن هذا الأصل يجري في المقام، و أثره وجوب الإتمام، و ليس مثبتا حتى على ما اخترنا في الاصول من أن الخاص إذا كان معنونا بعنوان وجودي يصير سببا لتعنون العام بعدم هذا العنوان الوجودي.

لأنه بعد كون تعنون العالم بهذا العنوان العدمي من باب تعنون الخاص بعنوان وجودي، فليس شمول العام لأفراده إلّا في ما لم يكن هذا العنوان الوجودى الّذي تعنون العام بعدمه، فبعد جريان الأصل و اثبات عدم وجود هذا العنوان، فيؤثر العام أثره لحصول عنوانه العدمي بعدم وجود الخاص بالأصل و وجود موضوعه.

ففي المقام يكون أيضا كذلك، لأنّه بعد كون لسان العام هو وجوب إتيان صلوات الرباعية أربع ركعات، و بعد ورود الخاص يكون هذا الحكم مختصا بمن لم يسافر، فلم يعنون العام الا بعدم كون المكلف مسافرا، فبعد

استصحاب عدم تحقق ما هو موجب للقصر، فالعام يؤثر أثره لوجود موضوعه، فتجب أربع ركعات بمقتضى العمومات و ارتفاع المانع أعني: احتمال وجود الخاص بالأصل.

و لم يكن العام معنونا بعنوان وجودي كالخاص، حتى يكون إحراز موضوعه أيضا محتاجا الى الأصل، لأنّ لسان أدلة وجوب القصر على المسافر هو التخصيص بالنسبة الى العمومات الاولية الدالة على وجوب الاتيان بأربع ركعات في الظهر و العصر و العشاء، و لسان الخاص ليس الا وجوب القصر على من كان من المكلفين مسافرا، فاذا ارتفع موضوع حكم وجوب القصر في صورة الشّك في حصول موضوعه و عدم حصوله بالاصل، فموضوع حكم العام، و هو المكلف، محفوظ فالعام

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 165

يؤثر أثره و يحكم بوجوب الاتمام في موضوعه.

[لسان آية القصر الحكومة]

بل يمكن أن يقال: بأن لسان الآية الشريفة وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ الخ «1» هو لسان الحكومة، لأنّ الفرق بين التخصيص و الحكومة هو انّه في الحكومة، لو لم يكن دليل المحكوم في البين يكون دليل الحاكم لغوا، لأنّ الظاهر منه النظر الى دليل المحكوم، و التصرف فيه بالضيق أو السعة كما ترى من مواردها، مثلا إذا قال (لا سهو لكثير السهو) فلا بدّ و أن يكون دليل آخر في البين دال على ثبوت حكم للسهو حتى كان قوله (لا سهو لكثير السهو) في محله و إلّا فلو لم يكن مطلق السهو محكوما بحكم، فلا معنى لأنّ يقال: ليس حكم الثابت للسهو لمن كثر سهوه، بخلاف التخصيص فلأن الخاص لا يكون لغوا و لو لم يكن في البين دليل آخر، فقوله (لا تكرم الفساق) حكم غير ناظر الى دليل آخر، و لا

يكون بلا مورد و لو لم يكن في البين (أكرم العلماء) فعلى هذا نقول: إن ظاهر الآية هو وجوب القصر- بعد كون المراد من (لا جناح) هو الوجوب- و لا معنى للأمر بالقصر إلّا إذا كان حكم على الإتمام من قبل الشارع أولا حتى تكون الآية أمرا على القصر فيه، فالآية ناظرة الى وجوب القصر من الصّلاة الّتي تكون طويلة، و هذا القصر بعد كونه في الكم، فالكم الأولى لا بدّ و أن يكون اطول حتى يصح الأمر بالقصر فيها، فالمجعول أولا لا بدّ و أن يكون على كل مكلف هو أربع ركعات، و هذه الآية أمر بالقصر منها ركعتين، فلسان الآية يكون لسان الحكومة.

فاذا كان لسان الآية الحكومة، فنقول: بأن الصّلاة المجعولة أولا لكل مكلف هي أربع ركعات، ثمّ بمقتضى الآية و النصوص يجب القصر للمسافر، فاذا شك أحد

______________________________

(1)- سورة النساء، الآية 101.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 166

في كونه موضوعا لحكم التقصير أم للتمام، من باب كونه شاكا في حصول موضوع وجوب القصر و عدمه، فبمقتضى الاستصحاب يحكم بعدم تحقق موضوع السفر، فالحكم الأولي المجعول لكل مكلف و هو الإتمام، يثبت في حقه، و ليس موضوع الحكم الأوّل معنونا بعنوان وجودي أو عدمى حتى يقال أن الأصل لا يثبت ذلك.

________________________________________

بروجردى، آقا حسين طباطبايى، تبيان الصلاة، 8 جلد، گنج عرفان للطباعة و النشر، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تبيان الصلاة؛ ج 1، ص: 166

و على ما قلنا من كون لسان دليل التقصير هو الحكومة، فلا مجال لأنّ يقال: إن المجعول الأولي له فردان: فرد منه التقصير و موضوعه أمر وجودي و هو المسافر، و فرد منه الاتمام و موضوعه أيضا أمر وجودى و

هو من كان حاضرا، فعلى من كان موضوعا للأول يجب القصر، و على من كان موضوعا لفرد الثاني يجب الإتمام، فبعد تعنون كل من الموضوعين بعنوان وجودي، فاصالة عدم تحقق أحد الموضوعين لا يكفى لاثبات موضوع الآخر حتى يشمله عموم دليله إلّا على القول بالأصول المثبتة.

لما قلنا من أن العام ليس معنونا بعنوان وجودى و لا عدمي، بل وجوب الإتمام تعلق بنفس المكلفين بدون تقيد موضوعه بكون المكلف حاضرا، و لسان دليل القصر سواء كان بلسان التخصيص أو الحكومة صار معنونا بعنوان وجودي و بعد الحكم بعدم تحقق هذا العنوان الوجودي بالاصل في مورد الشّك فيأثر العام اثره.

و لو على ما قلنا في الأصول بأن تعنون الخاص بعنوان وجودي، موجب لتعنون العام بعنوان عدمى أعني: عدم هذا العنوان الوجودي، لأنّ تعنون العام بعنوان عدمي بعد كونه من باب تعنون الخاص بعنوان وجودي، فليس العام معنونا الا بعدم هذا العنوان الوجودي، فاذا جرى اصالة عدم تحقق هذا العنوان الوجودي لكونه مسبوقا بالعدم، فلا يبقى للعام هذا العنوان العدمي، بل هو أيضا مرتفع بالأصل

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 167

فيبقى نفس موضوع العام و يؤثر العموم أثره فيجب الإتمام في صورة الشّك. «1»

[الطرق لكشف كون المسافة بالغة حدّ القصر]
اشارة

الأمر الثاني: في الطرق الّتي قيل أو يمكن أن يقال بكونها طريقا لكشف كون المسافة بالغة حدّ المسافة الموجبة للقصر:

الأوّل منها: العلم

و لا إشكال في كونه طريقا، لأنّ به يحرز الواقع، فمع حصول العلم يدري العالم بأن سفره السفر الّذي يجب فيه القصر.

الثاني منها: البينة
اشارة

و لا يخفى عليك أن بها تثبت المسافة إذا كانت شهادتها

______________________________

(1)- أقول: اعلم أن في صورة الشّك في كون المسافة بحد المسافة الموجبة للقصر و عدمه، لا اشكال في جريان الأصل، و لا إشكال في وجوب الاتمام، لأنه و لو صار عامنا معنونا بعنوان عدم ما عنون به الخاص، بل و لو عنون بعنوان وجودي أيضا، و لكن هذا العنوان العدمي أو الوجودي يكون له حالة سابقة، لأنّ قبل الشّك كان الشخص موضوعا لحكم وجوب الاتمام، فيستصحب الموضوع فيترتب الحكم على الموضوع، و هو وجوب الإتمام، و هذا لا كلام فيه.

إنما الكلام في أن ما أفاده- مدّ ظلّه- من انّه و لو قلنا في الاصول بأن الخاص إذا كان معنونا بعنوان وجودي فيعنون العام بعنوان عدم هذا العنوان الوجودي، و لكن مع ذلك باصالة عدم تحقق عنوان الخاص نجرى حكم العام لإحراز موضوعه باجراء أصالة عدم تحقق موضوع الخاص، لأن عنوان العدمي في العام كان من باب تعنون الخاص بعنوان وجودي، فاذا ارتفع هذا العنوان الوجودى بالأصل فيرتفع عنوان العدمى الّذي كان في العام أيضا.

لا نفهم تماميته و عندى يكون مورد الإشكال، لأنّ ما افاده مد ظله في الأصول كان حاصله راجعا الى أن العام بعد التخصيص يصير معنونا، و يكون التخصيص بحسب إرادة الجدية و اللب كالتقييد، فاذا كان كذلك فبعد ورود التخصيص في محل الكلام صار العام مقيّدا لبا، فاذا كان كذلك فأصالة عدم حصول موضوع الخاص لا تثبت وجود موضوع المقيد لحكم العام، فلا بدّ من إحراز ذلك إما

بالوجدان أو بالاستصحاب، و قلنا بأن موضوع العام حيث كان متيقنا سابقا فنستصحب بقائه فيترتب حكم العام و هو وجوب الإتمام، و موضوع الخاص أيضا باق على ما كان عليه سابقا من العدم بمقتضى استصحاب عدم تحقق موجب القصر، فتأمل. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 168

مستندة الى الحس لا الحدس نعم، بناء على انحصار حجّيتها في خصوص فصل الخصومات و عند الحاكم، فلم تكن حجة في ما نحن فيه، لأنّه على هذا تكون حجّيتها منحصرة بباب فصل الخصومات، ففي الموضوعات إذا قامت البينة عند الحاكم فيأخذ بها مثلا إذا قامت البينة على رؤية الهلال عند الحاكم يأخذ بها على هذا و أمّا إذا قامت عند نفس الشخص فلا يمكن له الأخذ بها.

[دليل حجيّة البيّنة في ما نحن فيه]

و لكن على ما هو التحقيق، كما يستفاد من بعض الأخبار مثل رواية «1» مسعدة، هو حجية البينة مطلقا.

مضافا الى انّه يمكن الاستدلال لعموم حجيتها في كل الموضوعات، سواء كان اقامتها عند الحاكم و في خصوص فصل الخصومات أم عند نفس الشخص، بامر آخر، و هو أن يقال: بأنّا نرى في الفقه أن بعض الاحكام تتعلق ببعض الموضوعات، و هذا النحو من الاحكام و إن كان بحسب الظاهر متعلقا بموضوعات خاصة، و لكن بعد ما عرض على العرف يرون أن ليست لهذه الموضوعات دخالة بحيث يكون في نفس هذه الموضوعات خصوصية خاصة موجبة لتعلق هذه الاحكام بها، لما يرى من عدم خصوصية لهذه الموضوعات في موضوعيتها لهذه الاحكام، و يحصل لنا القطع بذلك، فنكشف كشفا قطعيا بأن المناط في موضوعية هذه الموضوعات لهذه الاحكام أمر آخر غير خصوصية هذه الموضوعات، فلو كان هذا المناط الّذي استكشفناه و حكم العرف بكونه هو مناط الحكم

قطعا في موضوع آخر، فنستكشف بكون هذا الحكم ثابتا لهذا الموضوع، و نسمى ذلك بتنقيح المناط القطعى.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة، ج 12، ص 60، ح 4.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 169

مثلا إذا قال (الرجل إذا شك بين الثلاث و الاربع فيجب عليه البناء على الاربع) فهذا الحكم و إن كان موضوعه هو الرجل، و لكن نعلم بعدم خصوصية للرجولية، و لا دخالة لها في هذا الحكم، و لذا نقول بأن المرأة مثل الرجل في هذا الحكم، و هذا غير القياس الّذي اثبتنا في الاصول عدم حجيته، لأنّ هذا تنقيح مناط قطعي لا الظنّ القياسي.

و كذلك نرى في الفقه ثبوت حكم لموضوع، و إذا تفحّصنا نرى ثبوت هذا الحكم لموضوع آخر، و هكذا نرى ذلك في كثير من الموارد الّتي تفحصنا من أن الشارع اثبت هذا الحكم، فنكشف من ذلك أعني: من كون هذه الموارد محكوما بهذا الحكم بعد الاستقراء و التفحص كشفا قطعيا، بأن هذا الحكم كان ثابتا من الشارع في كل مورد، و هذا غير استقراء المصطلح عند المنطقيين، بل هذا يكون من باب حصول القطع، و من طعن بنا و بالفقهاء رضوان اللّه عليهم بأنّهم يعملون بالقياس و الاستقراء، فليس طعنه إلّا من باب جهله، و عدم اطلاعه، و عدم فهم مرادهم، و عدم استشمامه رائحة الفقاهة.

إذا عرفت ذلك نقول: بأن البينة من الامور الّتي نرى جعلها في موضوعات كثيرة، كما يظهر لك بمجرد التفحص في الفقه، فنكشف من جعلها حجة في موضوعات كثيرة بأنها حجة في الموضوعات مطلقا، فعلى هذا نقول: بأن البينة حجة في المقام، فلو قامت البينة على أن المسافة الفلانية تبلغ بثمانية فراسخ مثلا، فتكون حجة و يجب اتباعها، و

إتيان الصّلاة قصرا في هذه المسافة إذا اجتمع للمسافر شرائط السفر و لو لم تكن شهادتها عند الحاكم.

[من الطرق الشياع]

الثالث منها: الشياع، و لا يخفى عليك أن الشياع ليس بنفسه طريقا إلّا إذا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 170

حصل منه العلم، فعدّه بنفسه من الطرق الّتي يستكشف بها الواقع لا وجه له، حجية، إن كانت في ظرف حصول العلم، فالعلم طريق من أى سبب حصل.

الرابع منها: الاطمينان

، و يعبّر عنه بالعلم العادي و العلم العرفي.

فان كان المراد بأنّه العلم العرفى، بأنّ العرف يقولون بما ليس بالعلم: إنه العلم و لهذا يكتفى به، فهو غير تام لأنّ مرتبة الكشف إن بلغ بمرتبة لا يحتمل معه الخلاف فهو العلم و إلا فلا.

و إن كان المراد انّه يحصل للناس في بعض الموارد ظن متاخم للعلم بحيث يكون احتمال خلافه ضعيفا عندهم، بحيث عدّت هذه المرتبة علما عند العقلاء و يترتبون عليه آثار العلم، و الشارع- مع ما يرى أن طريقة العقلاء على الاخذ به، و ترتيب اثر العلم به- إن كان طريقته، غير طريقتهم و لم يكتف بهذه المرتبة المسماة عند العقلاء بالعلم، لكان اللازم عليه البيان، فمن عدم بيانه نكشف امضائه طريقة العقلاء، أو يكون عدم ردعه كاف، بناء على الكلام في ذلك المذكور في محله، فيمكن أن يقال بهذا النحو باعتبار الاطمينان.

الخامس منها:

كون مطلق الظن حجة في ما نحن فيه، و هذا راجع الى ادعاء انسداد باب العلم في خصوص المورد، و هذا هو المعبّر عنه بالانسداد الصغير.

بدعوى أن باب العلم بالمسافة منسد غالبا، لعدم امكان تحصيل العلم أصلا في أغلب المسافات إلا في بعض المسافات البعيدة الّتي يعلم المسافر بأنّها تبلغ حد الشرعي، مثل من اراد السفر من قم الى مشهد، و الّا في نوع المسافات القصيرة يكون تحصيل العلم بكون المسافة بالغة الى الحد الشرعي و عدمه متعسر، و لا يكون طريق شرعي كالبنية المنتهية الى الحس و الاطمينان على فهم المسافة و كشف

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 171

واقعها، فيكون باب العلم و العلمي منسد غالبا.

و لا اشكال في عدم وجوب الاحتياط، و يكون الاحتياط خلاف مصلحة جعل القصر

في السفر، لأنّ مصلحة التقصير كانت التخفيف على المسافر لكونه في مشقة السفر، فلو وجب عليه الاحتياط في موارد المشكوكة مع كون هذه الموارد كثيرة بين القصر و الإتمام، فيصير تكليفه أشق من الحاضر و اثقل منه، فمن هنا نكشف عدم جعل وجوب الاحتياط في حقّه.

و لا إشكال أيضا في عدم المجال لاجراء أصالة عدم تحقق موجب القصر في كل هذه الموارد المشكوكة في بلوغها حد المسافة و عدمه، لأنّ هذا أيضا يوقع الشخص في خلاف الواقع، و بعبارة اخرى يستلزم الخروج من الدين، فلا بدّ من العمل بالظن، فمتى حصل له الظن من أى سبب كان ببلوغ المسافة بحد المسافة الموجبة للقصر يجب الاخذ به.

و يؤيّد ما ذكرنا ما ورد في أخبار الباب من جعل الحد البريدين، أو ثمانية فراسخ، او أربعة و عشرين ميلا، و وجوب القصر في المسافة البالغة بهذه الحدود بتفصيل المتقدم ذكره، و الحال أن البريدين، أو ثمانية فراسخ، أو أربعة و عشرين ميلا عند العرف و بحسب الخارج ليس عبارة عن البريدين، أو ثمانية فراسخ، أو أربعة و عشرين ميلا الّذي علم كونها بهذه الموازين واقعا بحيث كانت هذه الحدود اسماء لما علم كونه بريدين أو ثمانية فراسخ أو أربعة و عشرين ميلا، و يعدّون المسافات بالغة الى هذه الحدود في ما حصل لهم الظن ببلوغها إليها، لأنّ العرف لم يحاسبوا المسافات الّتي يعدونها ثمانية فراسخ، أو البريدين، أو أربعة و عشرين ميلا بالدقة حتى يكونوا عالمين بكون هذه المسافات الخارجية بالغة بهذه الحدود.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 172

فبعد عدم كون خارجية هذه المقادير، و تطبيقها على بعض المسافات إلّا حصل لهم الظن لا العلم، فجعل الشارع القصر في

ثمانية فراسخ، أو أربعة و عشرين ميلا، أو البريدين مع عدم تعيين نحو مخصوص و كيفية خاصة غير ما هو المرتكز عند العرف، و ما هو وضع هذه الأمور خارجا ليس الا فيما يحصل الظن ببلوغ المسافة الى ثمانية فراسخ أو البريدين أو أربعة و عشرين ميلا، فيكون الميزان في وجوب القصر هو حصول الظن ببلوغ مسافة الّتي أراد المسافر أن يسيرها الى ثمانية فراسخ او البريدين أو أربعة و عشرين ميلا. «1»

المسألة السادسة:
اشارة

إذا شك في مسافة في أنها هل تبلغ بمسافة يجب فيها القصر أولا، فهل يجب الفحص عن بلوغها حد المسافة و عدم بلوغها، أولا يجب

______________________________

(1)- أقول: أن كان الامر كما افاد مدّ ظله في وجه التأييد على اعتبار مطلق الظن، فتكون النتيجة على خلافه.

أمّا أولا فلان مقتضى ما جعله مؤيّدا لمطلبه هو لزوم الاخذ بما هو ثمانية فراسخ او ازيد أو أقل في نظر العرف خارجا، لأنّ موضوع حكمه هو ما يكون خارجا عندهم ثمانية فراسخ و أربعة فراسخ، و ليس لازم ذلك التنزل الى مطلق الظن، بل لازمه الرجوع الى ما هو المتعارف خارجا.

بل نقول: بأنّه على هذا يكون تشخيص ذلك اعنى: ما هو المتعارف خارجا ممكن للشخص بطريق العلم أو العلمى، فلا تصل النوبة الى الاخذ بمطلق الظن.

و أمّا ثانيا إن غاية ما في الباب هو لزوم التنزل الى الظن الحاصل من تعيين العرف خارجا في التحديدات، مثلا إذا رأى أن عند العرف تكون مسافة ثمانية فراسخ أو ازيد أو أقل و حصل له الظن من بنائهم على كون المسافة كما قالوا، فيجب الاخذ بخصوص هذا الظن لا مطلق الظن.

و أمّا ثالثا إن الاخذ على تقدير كون موضوع حكم

الشارع هو ما تكون مسافة عند العرف، فما تكون مسافة عند العرف فهو موضوع حكم الشارع، لا أن يكون موضوع حكمه أمرا آخر، و يكون قولهم طريقا ظنيا إليه، فتأمل. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 173

الفحص، بل يجوز بمجرد الشّك في بلوغها بالمسافة الموجبة للقصر اجراء الأصل أعني: استصحاب عدم بلوغها حد القصر و اتمام الصّلاة.

[في وجوب الفحص او عدم وجوبه]

فهل نقول في صورة الشك: بعدم وجوب الفحص و جواز إجراء الأصل و الاخذ بمؤداه و لو قبل الفحص، أو نقول: بعدم جواز إجراء الأصل قبل الفحص مطلقا، أو نقول: بالتفصيل بين ما إذا كان الفحص متعسرا أو كان موجبا للحرج، فلا يجب الفحص في هذا الفرض و يجرى الأصل، و بين ما إذا لم يكن الفحص حرجيا، فيجب الفحص.

أمّا وجه عدم وجوب الفحص، فهو أن المقام يكون من قبيل الشبهات الموضوعية و فيها لا يجب الفحص.

أمّا أوّلا فلأنّ أدلتها مطلقة، و لم يقيّد جواز إجرائها بحسب أدلتها بأن يكون بعد الفحص.

و أمّا ثانيا فلأن المستفاد من بعض الروايات هو التصريح بعدم وجوب الفحص مثل أحد روايات زرارة «1» المتمسك بها لاستصحاب بعد ما سئل السائل عن لزوم الفحص و عدمه قال: «و لكنّك إنما تريد أن تذهب بالشّك الّذي وقع من نفسك» فالمستفاد منها عدم وجوب الفحص و لو كان شاكا، و من الموارد الّتي كان السائل متمكنا من الفحص و اطلق الشّك عليه في هذه الرواية في هذه الفقرة لأنه قال «إنما تريد أن تذهب بالشك» فمع اطلاق الشّك على هذا المورد مع تمكنه من الفحص لأنه يمكن له النظر و رفع شكه، و لكن مع ذلك ما وجب عليه الفحص

______________________________

(1)- تهذيب الاحكام، ج 1، ص

421، ح 8.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 174

فيستفاد من هذه الرواية عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية «1».

[قال الشيخ بوجوب الفحص من باب الاجماع الإجمالى بكون تكليفه مرددا بين القصر و الاتمام]

و أمّا وجه وجوب الفحص مطلقا فما يمكن أن يكون وجها له أمور:

الامر الأوّل: ما يظهر من كلام الشّيخ رحمه اللّه على ما في صلاته فهو قال: «و هل يجب الفحص أم لا وجهان من أصالة عدم اعتبار الفحص في موضوعات الاحكام، و من تعلق الحكم بالقصر على المسافة النفس إلا مرية، فيجب لتحصيل الواقع عند الشك إمّا الجمع و إمّا الفحص، و الأوّل منتف هنا إجماعا فتعين الثاني».

و حاصل كلامه في وجه وجوب الفحص يرجع الى انّه بعد كون حكم القصر معلّقا على المسافة الواقعية، فإذا شك الشخص في أن المسافة تبلغ الى ما هو موضوع للقصر واقعا أم لا، فحيث يعلم اجمالا التكليف المردد بين الاتمام و القصر، فيجب عليه إمّا الجمع بين اتيان صلاة إتماما و اتيان صلاة قصرا، و إمّا الفحص، و حيث لا يجب الجمع إجماعا فيجب عليه مع هذا العلم الاجمالى الفحص عن مقدار المسافة.

و فيه: إن ما قاله: من أن وجوب القصر معلق على المسافة البالغة بحد معين واقعا و في نفس الأمر و إن كان صحيحا، و لكن ما قاله: من انّه بعد العلم الاجمالى يجب عليه إمّا الجمع و إمّا الفحص، فإن كان مراده انّه يجب عليه إمّا الجمع معيّنا و إمّا الفحص معيّنا فنقول: إنه و لو صح ما قال على هذا بعده، بأن الأوّل منتف بالاجماع أعني: لا يجب الجمع بين الإتمام و القصر بالوجوب التعييني، و لكن ليس لازم عدم وجوب الجمع بالوجوب التعييني عدم جواز الجمع، بل يجوز له الجمع بين

______________________________

(1)- أقول: فلا

مجال لأنّ يقال: بأنّه مع التمكن من الفحص لا يطلق الشاك على الشخص و الشك على المورد، لأنّ في الرواية مع فرض حمل الشّك على المورد قال: بعدم وجوب الفحص و نفهم عدم انصراف الشّك من مورد التمكن من الفحص. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 175

القصر و الإتمام و لو فرض عدم وجوب الجمع عليه تعيينا.

و إن كان مراده من قوله (فيجب إمّا الجمع و إمّا الفحص) أن المكلف الشاك يجب عليه بالوجوب التخييري إمّا الجمع عليه و إمّا الفحص، و معناه جواز الجمع عليه و جواز الفحص عليه، فما قال بأن الأوّل منتف بالاجماع ليس في محلّه، لأنّه لم يقم اجماع على عدم جواز الجمع و الاحتياط بين القصر و الإتمام.

ثمّ بعد ذلك كله لا يتم كلامه لأنّ ما قال: من أن مقتضى العلم الاجمالى إمّا الجمع أو الفحص، فلا بدّ له من الفحص بعد الاجماع على عدم وجوب الجمع.

ففيه: إنّه لم يجب عليه الفحص و إنّ هذا أول الكلام، لأنه لو كان مجال لاجراء الأصل فينحل العلم الاجمالي، لأنّ في أحد طرفيه يكون الأصل بلا معارض، و هو استصحاب عدم حصول موجب القصر، فلا يفيد هذا الوجه وجوب الفحص نحن فيه.

الامر الثاني: دعوى عدم الاطلاق لادلة الأصول بالنسبة الى حال قبل الفحص.

و فيه: إن أدلتها مطلقة خصوصا مع التصريح في بعض الأخبار بعدم لزوم الفحص مثل ما في صحيحة زرارة «1» بعد سؤال السائل من انّه هل يجب الفحص لا قوله «لا و لكنّك إنما تريد أن تذهب بالشّك الّذي وقع من نفسك» و غيرها.

الامر الثالث: دعوى انصراف أدلة الاصول لما قبل الفحص بأن يقال: إن أدلتها منصرفة عن حال قبل الفحص.

______________________________

(1)- تهذيب

الاحكام، ج 1، ص 421، ح 8.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 176

و لا يخفى أن هذه الدعوى مشكل أيضا، فلا يمكن أن يقال: بوجوب الفحص لأجل هذه الوجوه، فما ينبغى أن يقال في هذا المقام:

[القول بوجوب الفحص و عدم وجوبه مطلقا مشكل]

إنّ الالتزام بعدم وجوب الفحص مطلقا في الشبهات الموضوعية، حتى في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، يكون مشكلا، لأنّ لازمه الالتزام بما لا يمكن الالتزام به، مثلا من شك من أن غلّته بلغت بحد النصاب أولا، مع تمكنه بالسهولة عن الفحص بالكيل و الوزن حتى يزول شكّه، و يعلم ببلوغ الغلة مقدار النصاب و عدم بلوغها، فلا يتفحّص و يجري أصالة عدم بلوغها مقدار النصاب، فلم تجب عليه الزكاة، أو من شك في انّه مستطيع أم لا و الحال انّه يمكن له الفحص و فهم ذلك بمجرد الرجوع الى دفتره، فلا يتفحص و يجرى اصالة عدم كونه مستطيعا و يستريح، فهل يمكن الالتزام بذلك، فهذا محظور الالتزام بعدم وجوب الفحص.

و إن الالتزام بوجوب الفحص مطلقا مشكل أيضا بمقتضى هذه الوجوه الثلاثة المتقدمة، لعدم تمامية هذه الوجوه، فهل يمكن الالتزام بوجوب الفحص بوجه آخر أم لا؟

فنقول: إن في أمثال الحقوق المالية و الديون، و كذا في مثل الاستطاعة و نظائرها بعد ما كشفنا مذاق الشارع باهتمامه بهذه الأمور و عنايته بحفظ حقوق الناس، و وقوع هذه الأمور على منوال صحيح، و جريانها في مجاريها الصحيحة الواقعية، و نرى أن اجراء الاصول قبل الفحص موجب لمخالفة الواقع كثيرا، مثلا من شك في انّه هل يكون مديونا لزيد أم لا، أو وجب عليه الزكاة أو الخمس أم لا، أو كان مستطيعا و وجب عليه الحج أم لا، و كان له دفاتر منظمة مرتبة بحيث

يزول شكه بمجرد النظر الى دفاتره، و يكشف له حقيقة الحال بدون تكلف و زحمة، فهل

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 177

يجوز قبل الفحص و المراجعة بالدفتر إجراء البراءة، أو استصحاب عدم الدين، أو عدم وجوب الزكاة أو الخمس أو الحج، و تستريح نفسه، أو ليس الأمر كذلك، بل يجب أولا الفحص فإن بلغ أمره بالفحص على طرف من الوجود و العدم فهو، و إن بقي شكه فله أن يجري الأصل، و يأخذ به و يرتب آثاره.

ففي أمثال هذه الأمور لا يجوز إجراء الأصول قبل الفحص، و إلّا يلزم فقه جديد، بل بقول بعض يلزم الخروج من الدين، هذا ما يمكن أن يقال: وجها لوجوب الفحص في أمثال هذه الأمور.

و أمّا في غير هذه الأمور بحيث يكون اللازم الفحص مطلقا و لا يجوز إجراء الأصول قبل الفحص، فلا يتم هذا الكلام، فعلى هذا نقع في محل الكلام و أمثاله في الإشكال في وجوب الفحص و عدمه، و إن كان لا يبعد دعوى انصراف أدلة الأصول في الشبهات الموضوعية عن بعض موارد الشك، مثل ما إذا امكن زوال الشك بفحص مختصر كالنظر الى اليد مثلا إذا شك في وقوع الدم عليها، و لكن مع كون مورد صحيحة زرارة نظير هذا المثال و لم يجب فيه الفحص مع سهولة النظر الى الثوب و ازالة الشك، فمع امكان الفحص و رفع الشّك بسهولة اطلق عليه السّلام عليه بقوله:

«إنّما تريد أن تذهب بالشك» و مع ذلك لم يوجب الفحص، فالحكم بوجوب الفحص مشكل.

المسألة السابعة:
اشارة

بعد ما عرفت من كون القصر واجبا في المسافة البالغة بالحدّ المذكور سابقا، فيقع الكلام بعد ذلك في أن مبدأ هذه المسافة يعتبر في أي موضع.

[مبدأ المسافة مورد البحث هل هو من منزله او من بلده او من حد الترخص]

فهل الاعتبار في مبدأ هذه المسافة بمنزل شخص المسافر أعني: من بيته بمعنى

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 178

أنّه إذا خرج من منزله للسفر فيحتسب ابتداء المسافة من منزله، فعلى هذا إذا ذهب مثلا ثمانية فراسخ من منزله، فقد سافر و ذهب مسافة التقصير.

أو تكون العبرة ببلة المسافر أو قريته، بمعنى أن من قصد السفر و كان البعد بين خارج سور بلده- أعني: آخر نقطة من بلده أو قريته- و بين مقصده ثمانية فراسخ مثلا فقد قصد السفر الموجب للقصر و يجب عليه القصر، و إلّا فلا.

أو يكون الاعتبار في مبدأ السفر من محل الترخص أعني مبدأ السفر يحسب من حد الترخص، فمن كان البعد بين محل ترخصه و بين مقصده بقدر المسافة الشرعية ذهابا، أو ايابا و ذهابا فيجب عليه القصر، و إلّا فلا.

اعلم أن من راجع كلمات الفقهاء رضوان اللّه عليهم لا يرى الى ما قبل زمان العلّامة و الشهيد الأوّل تعرضا لهذه المسألة، بل ما يكون في كلماتهم ليس إلّا التعرض لأصل المسألة أعني اعتبار كون المسافة ثمانية فراسخ، و لا تعرض لهم بأن مبدأ هذه المسافة يكون من أي موضع، و لكن ما يظهر من بعض كتب العلّامة رحمه اللّه و بعض كتب الشهيد رحمه اللّه هو التعرض لهذه المسألة، و قالا: بأنّه يعتبر مبدأ السفر من البلد، ثمّ بعد ذلك يظهر من كلمات بعض من الفقهاء التعرض لهذه المسألة، فعلى هذا لا مجال لدعوى الإجماع أو الشهرة في طرف في هذه المسألة، لما قلنا

من عدم تعرضها في كلمات القدماء حتى يكون مجال لدعوى الشهرة أو الإجماع، فبعد عدم الاجماع و الشهرة بالنسبة الى أحد الاحتمالات الثلاثة المتقدمة، فنحن و ما يقتضي نظرنا بمقتضى الفقاهة.

و الحق هو كون المبدأ في اعتبار المسافة بلد المسافر أو القرية في من يكون في البلد أو القرية، و من يكون منزله كوخا أو خيمة كبعض الأعراب فمبدأ سفره هو

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 179

خارج كوخه و خيمة.

فنقول: أمّا وجه كون مبدأ السفر لمن يكون في البلد أو القرية هو خارج البلد، و خارج القرية هو أن ما ورد من الشرع هو جعل القصر للمسافر الّذي كان سيره في المسافة المحدودة، و بيّن حد السفر الموجب للقصر، فاثبت الشارع هذا الحكم أعني: وجوب القصر للمسافر، فكلما حصل موضوع المسافر يكون هذا الحكم ثابتا له، و بعد عدم تعرض روايات الباب لما هو مبدأ السفر حتّى يعتبر المسافة المعينة من هذا الموضع، فلا بدّ من الرجوع الى العرف في تعيين مبدأ السفر أعني: يرجع إليهم في انّه متى يصير المسافر مسافرا حتى يعتبر المسافة من الموضع الّذي يعتبره العرف في مبدأ المسافرة.

فهل يحكم العرف أن الشخص بمجرد خروجه يعد مسافرا، أولا يعدّونه مسافرا حتى إذا خرج من سور بلده و آخر نقطة من بلده، فاذا خرج من هذا الموضع فيعتبرونه مسافرا، أولا يعدّونه مسافرا إلّا إذا بلغ بمحل الترخص؟

فنقول: إنه إذا رجعنا الى العرف نرى أنهم لا يعدّون من يكون في بلده مسافرا و لا يحكمون بالمتردد في بلده بأنّه مسافر، بل لا يحكمون بكون الشخص مسافرا الّا إذا خرج من بلده للسفر، فاذا هو في بيته أو في صحن منزله أو على باب

منزله أو في بلده لا يطلقون عليه اسم المسافر، فبعد عدم كون الشخص المتردد في بلده قبل خروجه من بلده مسافرا، فلا يترتب عليه أحكام المسافر، فمن خرج من منزله و سافر و لم يكن بين بلده و مقصده ثمانية فراسخ فلا يقال: انّه مسافر ثمانية فراسخ إن كان من بيته و منزله الى مقصده الّذي سافر نحوه ثمانية فراسخ، لأنه لا بدّ للمسافر بأن يضرب الأرض ثمانية فراسخ، و هو لم يصر مسافرا إلّا بعد خروجه

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 180

من بلده و لم يكن البعد على الفرض من خارج بلده الى مقصده ثمانية فراسخ، فلا يجب عليه القصر، فظهر لك أن المعيار في مبدأ السفر هو آخر البلد.

[لا يكون وجه المحقّق الهمدانى مطلوبا]
اشارة

و أمّا الوجه الّذي ذكره الحاج رضا الهمداني رحمه اللّه في مقام إثبات كون مبدأ السفر خارج البلد فهو قال: بأن المنساق من الأمر بالتقصير في البريدين، أو الثمانية فراسخ إنما هو ارادته على النهج المعهود لدى العرف في تحديد المنازل بالفراسخ و الأميال، و العرف لا يلتفتون في تحديداتهم إلّا الى البعد الواقع بين البلد الّذي يخرج منه و يدخل فيه، فاذا قيل لهم: التقصير في ثمانية فراسخ، فأرادوا المسافرة من النجف الأشرف الى الحلة مثلا، يسألون عن مقدار بعد الحلة عن النجف، فاذا قيل لهم سبع فراسخ و نصف، يرون سفر كل من يسافر من النجف الى الحلة سبعة فراسخ و نصف من غير التفات الى منازل الأشخاص الواقعة في البلدين. «1»

[في الاشكال على الوجه الّذي ذكره المحقّق الهمداني]

ففيه أن ما قاله رحمه اللّه من المعهود بين العرف من تحديد المنازل و الفراسخ و الأميال، بالبعد الواقع بين البلد الّذي يخرج منه و يدخل فيه، لا من منازل الأشخاص.

فهو يكون من باب أن التحديد بالفرسخ و الميل و جعلهما، يكون لا جل تشخيص البعد الواقع بين البلاد، حتى يكشف بعد كل بلد من الآخر، و لهذا يكون بنائهم على جعل أول الحد من أول البلاد لا من منازل الأشخاص، و ليس الأمر كذلك في البريد، لأنّ البريد كما قلنا كان من أجل تعويض مراكب البريد في رأس كل بريد، و هو واقع في رأس كل أربعة فراسخ، و لهذا ربما يتفق وقوع محل تعويض

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 724.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 181

المراكب و بالفارسية «مال بند» في نفس البلد أو القرية، للبلوغ بالحد أعني: أربعة فراسخ بين نفس البلد، و لكن الفراسخ و الأميال حيث يكون وضعهما

لأجل فهم بعد كل بلد من الآخر، فلهذا يحسب البعد ممّا بين البلدين أعني: من ابتداء خارج البلد الى أول نقطة من البلد الآخر و بالعكس، و الشارع في حكمه بكون القصر واجبا في بريدين، أو ثمانية فراسخ، أو أربعة و عشرين ميلا لم يلاحظ إلا ثمانية فراسخ من الفراسخ المتداولة، أو أربعة و عشرين ميلا اعني: جعل القصر في ثمانية فراسخ تكون مساحته و كمّه بقدر ثمانية فراسخ المعمولة عند العرف.

و هكذا في البريد و الميل، ففي أصل الحد يكون جعل الحد بالمقدار الّذي يكون عند العرف حدّا أعني: ثمانية فراسخ، أو البريدين، أو أربعة و عشرين ميلا، لا أن يكون مبدأ الحد الذي جعل القصر فيه هو المبدأ الّذي يكون مبدأ لحدودهم المعمولة من الفرسخ و الميل و البريد، بل يكون حكمه في أصل كمية الفرسخ بقدر كمية ما هو الفرسخ عند العرف، و هذا غير كون مبدأ حده المجعول أيضا مثل المبدأ المجعول عندهم في الفرسخ و الميل لتعيين كشف البعد الواقع بين البلدين، و خصوصا مع ما قلنا من إمكان جعل محل البريد أعني «مال بند» في نفس البلد، و من التحديدات الواردة في روايات الباب هو البريد، فليس بناء العرف في كل من الفرسخ و الميل، البريد على جعل مبدئهم خارج البلد، بل يكون جعلهم مختلفا ففي الفرسخ و الميل، المبدأ عندهم أول البلد لكون المقصود من جعلهما تعيين البعد بين البلاد، و في البريد يمكن جعل محله حتى في البلد، لأنّ الميزان وضعه في رأس كل أربعة فراسخ، و ربما يصير من بريد الى وسط البلد البعد الى أربعة فراسخ فيجعل محل البريد فيه.

فمضافا الى ما قلنا من الإشكال

في الوجه الّذي ذكره، ظهر لك انّه لا يمكن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 182

الاتكاء على ما قاله رحمه اللّه لأجل ما قلنا من إختلاف وضع البريد مع الفرسخ و الميل، لأننا نقول: بعد كون التحديد في الأخبار بكل من البريد و الفرسخ و الميل، و فرض كون مبدأ الفرسخ و الميل عند العرف من أول البلاد، و اغمضنا عن الإشكال بأن الشرع جعل حكم القصر في الفرسخ و الميل، و المراد منه ما هو فرسخ و ميل في نظر العرف، و هذا لا يلزم كون مبدأ الفرسخ و الميل بنحو المتعارف عندهم، فهنا اشكال آخر و هو أن الشرع كما حدد القصر بالفرسخ و الميل حدده كذلك بالبريد، فإن كان مبدئهما خارج البلد فمبدأ البريد ليس كذلك، بل يمكن وقوعه في البلد فلم يكون الاعتبار بالفرسخ و الميل، بل لعله يكون بمبدإ البريد، فلا يكفي الوجه الّذي ذكره رحمه اللّه لاثبات كون مبدأ المسافة خارج البلد.

[وجه كون المبدأ خارج البلد عدم اطلاق المسافر على من كان فى بلده]

فالوجه في كون مبدأ السفر هو خارج البلد ما قلنا: من عدم اطلاق المسافر على الشخص عند العرف ما لم يخرج من بلده أو قريته، و يؤيد ما ذكرنا ما في بعض الروايات من جعل مبدأ السفر من البلد لا من المنزل، و احتساب المسافة الشرعية المعتبرة في وجوب القصر من البلد، مثل نقل فعل رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سفره الى ذى خشب و المدينة حيث قال «و قد سافر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم الى ذى خشب و هي مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان أربعة و عشرون ميلا» «1» و مثل رواية صفوان قال «سألت الرضا

عن رجل خرج من بغداد» الى أن قال! «حتى بلغ النهروان و هي أربعة فراسخ من بغداد» «2» فاعتبر المسافة من بغداد لا من منزله، و غير ذلك.

و امثال هذه الروايات و إن كانت في مقام بيان حكم آخر و لكن من نحو

______________________________

(1)- الرواية 4 من الباب 1 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 8 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 183

سؤال السائلين أو بيان المعصوم عليه السّلام في بعضها من جعل الحد من المدينة الى ذى خشب، أو من الكوفة «1» و القادسية، أو من بغداد و النهروان، أو من الكوفة و قصر «2» يكشف انّ المغروس في اذهانهم هو جعل مبدأ السفر من البلد، كما ترى الآن أن العرف لا يفهم من كون القصر واجبا في ثمانية فراسخ إلّا كون هذه المسافة بين البلدين أو القريتين أو البلد و القرية، فالمسألة من هذا الحيث خالية عن الاشكال.

و أمّا وجه كون مبدأ السفر لمن لم يكن ساكنا في البلد و القرية، مثل من كان ساكنا في كوخ أو خيمة كبعض أعراب البادية، هو خارج الكوخ أو الخيمة، فهذا أيضا يظهر من البيان المتقدم في وجه كون مبدأ سفر الساكن في البلاد و القرى، خارج البلاد و القرى لأنّ العرف يحكم على من خرج من كوخه أو خيمته للسفر مع عدم كون منزله إلّا الكوخ أو الخيمة انّه مسافر، فيترتب على سفره أحكام السفر فاذا قصد السفر، فبمجرد خروجه يعدّ سيره من أجزاء السفر و مسافته بين خارج كوخه أو خيمته و بين مقصده إن كانت بحد القصر يجب عليه القصر.

و أمّا ما ورد في بعض

روايات الباب من احتساب المنزل في مقام ذكر المسافة من المنزل مثل قوله عليه السّلام في رواية «3» حفص المروزى «هذا إذا خرج الرجل من منزله يريد اثنى عشر ميلا» المتوهم منها كون المقياس في مبدأ الحركة هو الخروج من المنزل، بمعنى البيت و الدار، بتخيل كون المراد من لفظ المنزل هو الدار

______________________________

(1)- الرواية 7 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 1 من الباب 5 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- الرواية 4 من الباب 2 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 184

و البيت.

[لا يدل الرواية على كون مبدأ المسافة خارج الدار]

ففيه: إن هذه الرواية و امثالها لا تدلّ على كون الاعتبار في مبدأ السفر هو خارج الدار، لأنّ المنزل كما يطلق على الدار و البيت، كذلك يطلق على بلد الشخص و قريته، فيحتمل أن يكون المراد من المنزل في هذه الرواية و أمثالها هو بلد الشخص أو قريته. «1»

و من هنا يظهر لك عدم دلالة قوله عليه السّلام في رواية «2» عمّار «لا يكون مسافرا حتى يخرج من منزله أو قريته ثمانية فراسخ» لأنّ لفظ من منزله أيضا قابل للحمل على البلد، أو كان المراد من منزله كوخه، فلا دلالة لأمثال هذه الرواية على كون المعيار في مبدأ السفر هو خارج البيت و الدار. «3»

______________________________

(1)- أقول: يؤيد ذلك رواية صفوان- و هي رواية 8 من الباب 2 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل- فانّ: في مقام عدم وجوب القصر على رجل خرج من بغداد في هذه الرواية قال عليه السّلام:

«لأنّه خرج من منزله و ليس يريد السفر الخ» مع انّه على ما يظهر من صدر الحديث خرج من بغداد لا من بيته،

و مع ذلك عبّر عليه السّلام عن بلده و هو بغداد بالمنزل. (المقرّر)

(2)- الرواية 3 من الباب 4 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(3)- أقول: ما أفاده مد ظله يكون عندي مورد الإشكال، لأنّ ما قاله من حكم العرف بعدم صدق المسافر على من كان في بلده أو قريته إلا إذا خرج منهما ليس كذلك، بل ما كان بنظري هو أن العرف يطلقون على من اراد السفر و تهيأ له و خرج من بيته و داره بهذا القصد، و يتردد في أزقة البلد أنه مسافر و لو لم يخرج من بلده بعد.

ألا ترى انّك إذا رأيت احدا يمشي الى جانب و هو في البلد و أراد السفر و سئلت عنه: الى أين تذهب و تسير، يقول: أنا مسافر، و يتعاملون معه معاملة المسافر، و يقولون انّه اشتغل بالسفر و الحال هو في بلده، و لا يقولون انّه يمشي و يصير مسافرا بعدا يعنى: إذا خرج من البد.-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 185

هذا تمام الكلام في القرى و البلاد المتعارفة.

[في حكم البلاد المتسعة من حيث مبدأ المسافة]

و أمّا في البلاد المتسعة الخارجة عن المعتاد فهل يعتبر مبدأ السفر في هذه البلاد من خارج البلد، أو يعتبر من خارج محلّة الّتي يسكن فيها المسافر من البلد؟

______________________________

فالميزان في مبدأ السفر لا يبعد على ما يخطر بالبال- و إن لم أر تصريحا به من أحد- هو أن يكون مبدأ حركة الشخص و سيره بقصد المسافرة لدخالة القصد في حكم وجوب القصر في السفر كما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، فمتى قصد السفر و شرع في السير فيحسب من السفر، فإن خرج الرجل للسفر من بيته، فمبدأ السفر من خارج بيته، و إن خرج

من موضع آخر مثل من كان في خارج بيته في موضع من البلاد، و أراد السفر من هذا الموضع و شرع من هذا في السير فيحسب ابتدائه من قصده و سيره من هذا الموضع الّذي قصد السفر و شرع في السير، و الضرب.

أمّا أولا: فلإمكان استفاده ذلك من نفس ظاهر الآية الشريفة (و إذا ضربتم في الارض) لأنه بمجرد ذلك شرع في الضرب في الأرض، و لا وجه لأنّ يقال: بأن من اراد السفر و خرج على طبق قصده من داره أو موضع آخر لم يكن ضارب الأرض متى لم يخرج من بلده أو قريته.

و ثانيا: إن كان السفر من حيث المبدأ غير مبين من قبل الشارع، و كان محوّلا الى العرف فالعرف أيضا يساعد ما قلنا، مع أن الالتزام بكون المبدأ خارج البلد يوجب الإشكال في بعض المصاديق، مثلا في البلاد المتسعة أو إذا كان الشخص خرج من البلد و بعد في اطرافه، يمكن أن يقال: إنّ العرف إن لم يطلق على من في بلده انّه مسافر، كذلك لا يطلق على من كان حول بلده و اطرافه القريبة بأنّه مسافر، فلم يكون المبدأ خارج سور البلد.

و أمّا على ما قلنا و إن لم نجزم به فاذا كان الشخص مريدا للسفر و تحرك على طبق ارادته، فهو مسافر غاية الأمر يجب عليه القصر إذا كان طول سفره ثمانية فراسخ امتدادية أو ملفقة على ما أمضينا الكلام فيها، و على كل حال و لو لم نقل بما ذكر نا بطريق الجزم، و لكن لا يبعد كون الأمر كذلك، فاذا كان البعد بين مقصده و بين الموضع الّذي شرع في السفر بحد المسافة الواجبة فيها القصر، فيكون

للاحتياط في الجمع بين القصر و الإتمام مجال، مثلا إذا شرع في السفر من خارج بيته و فرض كون البعد بين هذا الموضع و بين مقصده بحد المسافة، فالاحتياط بالجمع و إن لم يبلغ البعد بين خارج بلده و هذا المقصد بحد المسافة الموجب فيها القصر، فتأمل. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 186

اعلم أن ما قلنا من كون حكم العرف بعدم صدق المسافر على من يكون مترددا في بلده، و لأجل هذا قلنا في البلاد المتعارفة بكون الاعتبار في مبدأ السفر من خارجها، لا يجري في البلاد المتسعة الخارجة عن المعتاد، لأنّ سعة البلد موجب لعدم مساعدة العرف على ما يساعده في البلاد المتعارفة، و لا أقل من عدم إمكان دعوى مساعدة العرف بعدم صدق المسافر على من خرج من أول نقطة في بلد متسع الى آخره كي يسافر الى مقصده ما لم يخرج من البلد، و الحال أن من أول نقطه البلد الى آخره فرسخا أو فرسخين مثلا.

فلا يمكن أن يكون الضابط في مبدأ السفر في البلاد المتسعة هو خارج البلد، بدعوى عدم صدق المسافر على من سافر منها ما لم يخرج من البلد، و ما قلنا من كون المبدأ خارج البلد في البلاد الصغيرة و المتوسطة كان من باب حكم العرف فكل مورد يحكم العرف، فنحن نقول به، و إلّا فلا، و في البلاد المتسعة لا يمكن تسلّم عدم صدق المسافر على الشخص ما لم يخرج من البلد، خصوصا إذا كان مبدأ حركته من أول نقطة البلد الى جانب آخر نقطة من البلد.

كما أن الالتزام بأن العبرة في مبدأ السفر في البلد المتسع تكون خارج محلّة الشخص مشكل أيضا، فإنّ من كان منزله

آخر نقطة المحلة بحيث انّه يخرج من المحلة بخروجه من بيته، أو بفاصلة قليلة مثلا عشرة أقدام، فهل يطلق عند العرف عنوان المسافر عليه بمجرد خروجه من محلته، و الحال ان يكون بعد في البلد و لم يخرج منه، فدعوى مساعدة العرف على كون المبدأ في السفر في البلاد المتسعة خارج المحلّة مشكل.

و ما قاله الحاج آقا رضا الهمدانى رحمه اللّه في وجه كون مبدأ السفر هو آخر المحلة في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 187

البلاد المتسعة: من أن البلاد الواسعة الخارجة عن المعتاد الّتي تكون المسافة الواقعة فيها بنفسها ملحوظة لدى العرف، بحيث يقولون من محلة كذا الى محلة كذا فرسخ أو نصف فرسخ أو ميل، بحيث يكون محلاتها ملحوظة على سبيل الاستقلال في تحديداتهم، و غرضه أن في هذه البلاد تكون المحلات ملحوظه مستقلا و تحاسب التحديدات من أول المحلة، فكما قال في البلاد المتعارفة بكون العبرة في مبدأ السفر من خارج البلد لكون التحديدات في خارجها، فكذلك في البلاد المتسعة بعد كون التحديدات من أول المحلة، كانت العبرة في مبدأ السفر خارج المحلّة. «1»

يكون كلاما غير تام، لأنّ ما قاله ادعاء بلا دليل، و من اين سلم كون بناء العرف على جعل التحديدات من أول المحلة في البلاد المتسعة، مضافا الى ما قلنا في ردّ وجه الّذي ذكر لكون الميزان خارج البلد في البلاد المتعارفة من أن التحديدات و لو فرض كونها عند العرف من خارج البلاد أو في خارج المحلة في البلاد المتسعة، فيكون هذا من باب معلومية بعد الواقع بين البلاد أو بين المحلات، و هذا لا يصير دليلا على كون مبدأ السفر من ابتداء هذه التحديدات. «2»

ثمّ إنّه يقع

الكلام في فرع آخر و هو انّه لو كان طول بلد بقدر المسافة الموجبة للقصر أو ازيد، فمن يسير من موضع من هذا البلد الى موضع آخر منه، و يكون البعد بينهما ثمانية فراسخ، فهل يجب عليه القصر في هذا السير مع كونه في بلده، أم لا يجب عليه القصر؟

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، ص 724.

(2)- أقول: أمّا لو كان الميزان في مبدأ السفر ما قلت، فلا يبقى مورد إشكال أصلا في البلاد المتسعة، لأنّ المبدأ يعتبر في كل موضع قصد السفر منه و شرع في السير. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 188

و لا يخفى عليك أن الالتزام بوجوب القصر عليه مشكل، لأنّ صدق المسافر عليه غير معلوم.

ثمّ انّه بعد كون وجوب القصر في المسافة البالغة بثمانية فراسخ، فمن كان سفره على خلاف المتعارف، مثل من أراد السفر و خرج من منزله و يسير في اليوم الأوّل فرسخا مثلا و هو يستريح في محل، ثمّ يسير في يوم الثاني أيضا فرسخا و يستريح في محل، و هكذا بحيث يسير في ثمانية أيّام ثمانية فراسخ، فهل نقول: بوجوب القصر عليه لأنّه مسافر و مسافة سفره تبلغ ثمانية فراسخ، أو نقول: بوجوب الإتمام عليه لانصراف الأدلّة من هذا النحو من السفر، و لا يبعد الانصراف. «1»

الشرط الثاني: من شروط وجوب القصر القصد الى المسافة، بمعنى اعتبار القصد الى مسير ثمانية فراسخ امتدادية أو ملفقة على نحو مضى الكلام فيه، فمن سافر ثمانية فراسخ بلا تحقق قصد من ابتداء مسيره، لا يجب عليه القصر، بل يجب عليه إتمام الصّلاة، مثل ما لو سافر لأخذ غريم، أو لاخذ عبد آبق بدون أن يقصد حدا يبلغ بحد السفر الموجب للقصر، فلا يجب

لمثله القصر و يجب عليه الإتمام و إن بلغ سفره بحد السفر الموجب للقصر أو أزيد.

و اعتبار القصد في وجوب القصر في الجملة ممّا لا إشكال فيه، لكونه تقريبا

______________________________

(1)- أقول: دعوى الانصراف في خصوص ما سار المسافر ثمانية فراسخ في ثمانية أيّام يكون بعيدا.

و لعل نظره الشريف ليس الى خصوص المثال بل إنه ربما يتفق مورد يمكن دعوى انصراف الأدلة، مثل من يسير مسافة يسيرة للتنزه أو نحوه في كل يوم حتى يبلغ الى المسافة الموجبة للقصر في أيّام كثيرة. (المقرّر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 189

مجمعا عليه، و الشهرة على اعتبار هذا الشرط مسلّمة، و يدلّ عليه بعض أخبار الباب مثل رواية صفوان، قال سألت الرضا عليه السّلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، و هي أربعة فراسخ من بغداد، أ يفطر إذا اراد الرجوع و يقصر؟ قال: لا يقصر و لا يفطر، لأنه خرج من منزله و ليس يريد السفر ثمانية فراسخ، إنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق، فتمادى به السير الى الموضع الّذي بلغه، و لو انّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا و جائيا لكان عليه أن ينوي من الليل سفرا و الإفطار، فإن هو أصبح و لم ينو السفر فبدا له بعد أن أصبح في السفر قصر و لم يفطر يومه ذلك» «1» و رواية عمّار. «2»

[في ذكر بعض خصوصيات المسألة في فروع]
اشارة

إنّما الكلام في بعض خصوصيات المسألة، فنقول بعونه تعالى: إنّه بعد كون قصد المسافة شرطا في وجوب القصر يقع الكلام في فروع:

الفرع الأول:
اشارة

هل المعتبر في القصد الّذي يكون شرطا في وجوب القصر في السفر، أن يكون قصد المسافر على نحو الاستقلال، بمعنى كونه مستقلا في القصد، أو يكفي تحقق القصد منه و إن كان بالتبع، مثلا إذا قصد العبد أو الزوجة السفر الموجب للقصر بتبع قصد مولاه أو زوجها السفر، فهل يكفي هذا القصد التبعي منهما في وجوب القصر عليهما و إن لم يكن قصدهما على وجه الاستقلال متعلقا بهذا السفر، أم لا يكفي هذا النحو من القصد؟

و من الواضح أن مورد الكلام ما إذا صدر القصد من التابع الى السفر، غاية

______________________________

(1)- الرواية 1 من الباب 4 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2)- الرواية 2 من الباب 4 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 190

الأمر يكون القصد منه بالتبع كما في المثال المذكور، لا أن يكون أصلا بلا قصد في سفره.

[لا فرق فى المقصد بين التبعى و الأصلي]

و لا فرق في ما هو مورد الكلام بين أن يكون صدور القصد التبعي الى المسافة الشرعية من التابع من باب حكم العقل، مثل من كان أسيرا و يسيرون به الى محل يكون البعد بين منزله و بين هذا المحل ثمانية فراسخ أو أزيد، و هو مجبور في هذا السفر، و لكن بعد ما يرى بأنّه لو ترك المتابعة يأخذونه بأشد العذاب صار حاضرا بالسفر قاصدا له من باب حكم العقل بحضوره بهذا السفر دفعا للضرر المتوقع على نفسه، فهو في هذا الفرض قاصد للمسافة، و بين أن يكون صدور القصد منه بالتبع الى السفر من باب حكم الشرع، مثل العبد و الزوجة، فإنه لو لم يكن حكم الشرع بوجوب متابعة العبد لمولاه و الزوجة لزوجها لما يسافر العبد و الزوجة،

و لا ينشأ القصد منهما الى السفر، و لكن بعد حكم الشارع عليهما بوجوب المتابعة و أمر المولى و الزوج عليهما بالسفر، قصدا السفر تبعا و يقصدان المسافة بالتبع.

إذا عرفت مورد الكلام:

نقول: إنه متى تحقق القصد بالمسافة من التابع في السفر يجب عليه القصر لانّ الشرط في وجوب القصر ليس إلّا القصد، سواء كان القصد بالاستقلال بالسفر، أو كان بالتبع.

نعم لو لم يكن التابع قاصدا للمسافة و لو بتبع قصد المتبوع، مثل ما إذا اراد العبد العصيان و الإباق في ضمن السفر قبل بلوغه الى الحد الموجب للقصر، أو أرادت الزوجة عصيان أمر الشارع و التخلف قبل بلوغها بالمسافة الشرعية عن زوجها، فلا يجب عليهما القصر، لعدم كونهما قاصدين المسافة و لو فرض تحقق

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 191

القصد من المتبوع الى المسافة، لعدم أثر لقصده مع عدم تحقق القصد من نفس التابع، و هذا أمر واضح.

الفرع الثاني:
اشارة

إذا ظهر للتابع بعض الامارات الدالة على عدم بلوغه حد المسافة الموجبة للقصر، مثل ما إذا رأت الزوجة من بعض الامارات أن زوجها يطلّقها في هذا السفر قبل بلوغها الى حد المسافة، و هي في صورة صيرورتها مطلقة تنصرف عن ادامة السفر، أو رأى العبد من بعض القرائن أن مولاه يعتقه قبل بلوغه حد المسافة، و هو في صورة صيرورته منعتقا لا يدوم بسفره، فلا يبلغ في هذا الفرض حد المسافة الشرعية.

فهل يجب على التابع القصر في هذا الفرض من حيث كونه قاصدا للسفر الموجب للقصر بتبع متبوعه فعلا، و عدم حصول ما يحتمل حصوله بعد.

او يجب عليه الإتمام، لأنّه ليس قاصدا للمسافة، فإنّه مع احتمال طروّ ما يصرفه عن السفر لم يكن قاصدا للسفر؟

قال الشهيد في

الذكرى: بعدم وجوب القصر على التابع في هذا الفرض لعدم كونه قاصدا للمسافة مع فرض ما يحتمله من عروض ما يصرفه عن ادامة السفر، فإنه مع هذا الاحتمال ليس قاصدا للسفر.

و قال صاحب الجواهر: بأنّه يجب القصر في هذا المورد، لأنّه إن كان أمثال هذه الاحتمالات- مثل الاحتمال الّذي مثّلنا في الزوجة و العبد- موجبا لعدم كون الشخص قاصدا و يضرّ بقصده، فكان لازمه عدم وجوب القصر على نوع المسافرين بل كلهم، لأنّ نوع المسافرين يحتملون عدم بلوغهم بحد المسافة، و لا أقل من حدوث احتمال الموت في أنفسهم، بل و احتمالات أخر، مثل احتمال حصول

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 192

المقصد الّذي يسافرون لأجله قبل البلوغ حد المسافة الموجبة للقصر، أو احتمال حصول المانع من إدامة السفر من لص و غيره. «1»

إذا عرفت كلامهما فما ذا نقول في المقام، فهل نقول بما قال في الذكرى، أو بما قال في الجواهر.

[لا يعبأ بهذه الاحتمالات فى كون القصر للمسافة موجب للقصر]

اعلم أن ما ينبغى أن يقال في المقام: هو انّه إن بنينا على أن أمثال هذه الاحتمالات مثل احتمال الموت، أو احتمال وجود المانع من لص و غيره سببا لعدم وجوب القصر- من باب عدم تأتي القصد من المسافر بالمسافة لأجل هذه الاحتمالات- فيلزم عدم بقاء مورد لوجوب القصر على المسافر، لأنه ما من مسافر إلّا و يتاتى في نفسه أمثال هذه الاحتمالات.

فمن هنا نستكشف بأن القصد المعتبر في وجوب القصر في السفر ليس القصد الّذي لا يجتمع مع هذه الاحتمالات، بل القصد المعتبر في هذا الباب هو القصد الّذي يتلائم مع هذه الاحتمالات، لانّا نرى طروّ أمثال هذه الاحتمالات في نوع الأمور تصير متعلقة لقصد الانسان، و مع ذلك يتعلق القصد بإتيانها كما

ترى في العبادات، فإن من يقصد الصّلاة مثلا فهو يخطر بباله غالبا أمثال هذه الاحتمالات، مثل احتمال أن يموت قبل اتمام الصّلاة، أو يقصد الصوم مع طروّ هذا الاحتمال له، و لكن مع ذلك يتعلق قصده بالصّلاة أو الصوم، فمنشأ ذلك ما قلنا من امكان تحقق القصد من الشخص مع طروّ أمثال هذه الاحتمالات، فالقصد يتحقّق في السفر الى المسافة من المسافر مع أمثال هذه الاحتمالات نعم، قد يتفق في بعض الاحتمالات

______________________________

(1)- جواهر الكلام، ج 14، ص 238.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 193

عدم تأتي القصد مع فرضه، مثل الأعرج الّذي يرى في نفسه عدم تمكنه من طي المسافة الشرعية بنفسه، فهو مع احتمال عدم تمكنه من بلوغه الى المسافة لا يحصل منه القصد الى طي المسافة.

الفرع الثالث:
اشارة

لا فرق في ما قلنا من اعتبار القصد الى المسافة و كفاية حصوله و لو كان بالتبع، بين أن يكون قصد التابع ناشيا من اختياره، و بين أن يكون منشأ قصده الى السفر الاجبار و الاكراه مثل من اجبر، أو اكره على السفر.

و ما يظهر من بعض الكلمات من الإشكال في تحقق القصد إذا كان المسافر مجبورا على السفر لا وجه له، لأنّ تأتي القصد من الشخص:

تارة يكون من باب ما يرى القاصد من المصلحة الى الفعل إذا كان فيه مصلحة صرفة، أو يرى أقوائية المصلحة على المفسدة الكامنة في الفعل إذا كان فيه حيث المصلحة و حيث المفسدة، ثمّ بعد ما يرى من المصلحة الى الفعل يختار الفعل «و هذا هو مناط اختيارية الأفعال، و ما هو مناط في مصححية الشخص للمثوبة و العقوبة، لا الإرادة كما توهّم بعض، لأنّه لو كانت الإرادة هي مناط اختيارية الأفعال

و منشأ استحقاق الثواب و العقاب، فهي موجودة في كل الحيوانات حتى الحيوانات الضعيفة، فإنّ الإرادة موجودة فيها، فما به امتياز الانسان من الحيوان هو أن له حالة يمكن بواستطها إدراك المصالح و المفاسد، و له أن يختار جانب المصلحة أو المفسدة، و بعبارة اخرى له الاختيار» ففي هذه الصورة كان منشأ قصده الاختيار.

و تارة ليس كذلك، بل لا يرضى بالفعل و لم يكن مختاره في حد ذاته، لعدم مصلحة في الفعل في حد ذاته حتى يختار الفعل، و ليس له الخيرة في جانب الفعل أو الترك بل هو مجبور على الفعل، و لكن مع ذلك بعد ما يرى وقوع الفعل منه في الخارج

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 194

و لو بالجبر، فيقصد الفعل و لو كان منشأ قصده الاضطرار الى العمل، ففي كلتا الصورتين يكون صدور الفعل منه مع القصد.

فنقول: إن السفر كذلك فتارة يسافر الشخص و يقصد السفر عن اختيار، و تارة لا عن اختيار، بل عن إكراه و إجبار، مثل من القي في السفينة، فهو بعد ما يرى أنه ألقي في السفينة و يساق الى المسافة، و مضطر في هذا السفر، و لكن بعد ذلك أعني:

في فرض الإجبار و الاضطرار يقصد السير الى المسافة فيجب عليه القصر، لانّا نحتاج في السفر الى القصد، و هو في الفرض يكون قاصدا.

[في ان لا يكون المسافر كثير السفر]

الشرط الثالث: من شرائط وجوب القصر، على المسافر على ما يظهر من بعض العبائر، هو أن لا يكون المسافر كثير السفر.

اعلم أن ما يظهر من المفيد رحمه اللّه في المقنعة، و من السيّد في الانتصار و من بعض كتبه، و من الشّيخ رحمه اللّه في بعض كتبه، و من السلار رحمه اللّه و

من بعض آخر هو انهم عبّروا في مقام ذكر هذا الشرط: أن لا يكون سفره اكثر من حضره، كما يظهر ذلك من المحقق في الشرائع «1»، و من العلّامة في بعض كتبه.

و قال المحقّق في المعتبر- بعد ما أشكل بما ذكر من كون الشرط أن لا يكون سفره أكثر من حضره-: بأن الميزان إن كان هذا فمن كان مقيما في كل شهر عشرة أيّام في بلده، و عشرين يوما منه في السفر، فيجب عليه الإتمام، لأنّ سفره أكثر من حضره، لكون أكثر الشهر و هو عشرون يوما في السفر، و الحال انّه يجب عليه القصر إذا كان أقام في بلده عشرة أيّام كما يأتي الكلام فيه.

______________________________

(1)- جواهر الكلام، ج 14، ص 2.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 195

ثمّ ذكر في مقام بيان الشرط ما حاصله يرجع الى أن من شرائط القصر على المسافر، هو أن لا يكون ممّن يلزمه الإتمام في سفره، و لا يخفى عليك أن هذا البيان أيضا لا يخلو من الإشكال.

أما أولا: فلانّ الميزان في عدم وجوب القصر في المكارى و اخواته ان كان هو كونهم من مصاديق من يلزمه التمام في سفره، فلا وجه لانحصار هذا العنوان بهم فقط، بل كل من يلزمه الاتمام في سفره فهو مثلهم، مثل من كان سفره حراما، فلا معنى لجعل هذا الشرط قسيما لشرط الآخر، و هو كون سفر المسافر سائغا، المسافر إذا لم يكن سفره سائغا فيجب عليه أيضا الإتمام في سفره.

و ثانيا: التعبير في مقام ذكر شرط القصر: بأن لا يكون ممّن يلزمه الإتمام في السفر، لا يوضح شيئا و لا يصير مجهول بسبب هذا التعبير معلوما، لأنه من الواضح أن الإتمام في السفر

واجب على من يلزم عليه الإتمام بلا حاجة ذكر هذا الشرط، و على كل حال يظهر من العلّامة في بعض كتبه عبّر عن الشرط بنحو ما عبر عنه في المعتبر.

و ذكر بعضهم في مقام عنوان هذا الشرط بأنّه يشترط في وجوب القصر بأن لا يكون السفر عمله، و بعضهم بأن لا يكون السفر عمله و لا يكون بيته معه، و ذكر بعضهم في مقام عنوان الشرط نفس العناوين المذكورة في الأخبار من المكارى و الجمال الخ، و هم مختلفون فبعضهم ذكر خمسة منها، و بعضهم على نحو آخر.

[فى العناوين المذكورة فى الاخبار]

إذا عرفت إختلاف تعبير الفقهاء رضوان اللّه عليهم في مقام تأدية هذا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 196

الشرط فنقول: إنّ العناوين المذكورة في أخبار «1» الباب المصرح فيها بعدم وجوب القصر عليهم تبلغ عشرة عناوين:

العنوان الاوّل: المكارى كما ذكر في الرواية 1 و 2 و 4 و 8 و 10 و 12.

العنوان الثاني: الجمال كما ذكر في الرواية 1 و 4 و 10.

العنوان الثالث: الملاح كما ذكر في الرواية 4 و 5 و 7 و 8 و 11 و 12.

العنوان الرابع: الجابى الّذي يدور في جبايته.

العنوان الخامس: الأمير الّذي يدور في أمارته.

العنوان السادس: التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق و صرح بهذه الثلاثة في الرواية السكوني و هي الرواية 9.

العنوان السابع: البدوي الّذي يطلب مواضع القطر و نبت الشجر، و عبر عنه في بعض الروايات بالأعراب، و لعل الوجه في ذلك أن الأعراب عبارة عن الاظهار، و هم يظهرون و يطلبون موضع القطر و نبت الشجر، و ذكر البدوي و الأعراب في الرواية 5 و 6 و 9.

العنوان الثامن: الراعي كما يظهر من الرواية

2 و 12.

العنوان التاسع: الكريّ و هو الّذي يكرى نفسه.

العنوان العاشرة: الاشتقان، و ذكر الكري و الاشتقان في الرواية 2 و 12 و المراد من الاشتقان إمّا يكون أمير البيدر كما ذكر في التذكرة، و هو من يتصدى

______________________________

(1) الروايات الواردة فى الباب 11 من أبواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 197

للنظر الى البدر و هو بالفارسية «خرمن» لأخذ الزكوات من قبل السلطان، أو أمير البذر أعني: من يتصدّى لتعيين مقدار البذر الّذي يبذر في الأراضى من قبل السلطان و كون المراد من الاشتقان هذا بعيد لعدم معهودية جعل شخص من قبل السلطان لتعيين بذر الرعية.

و ليس المراد من الاشتقان البريد: أمّا أولا فلأنّ الكري عبارة عن البريد، أو يشمل البريد، لأنّ البريد أيضا من أفراد من يكري نفسه، لأنه يكري نفسه لإرسال الكتب.

و ثانيا فلأنّه ما وقع تصريح من أهل اللغة على كون المراد من الاشتقان هو البريد، و ما في الرواية 12 من تفسيره بالبريد، فلا يكفي لحمل الاشتقان على البريد، لعدم معلومية كون هذا التفسير جزء للرواية و من المعصوم عليه السّلام.

لاحتمال كون هذا التفسير من كلام الصدوق، و على كل حال يظهر من الروايات الواردة في الباب وجوب الإتمام على هذه العناوين المذكورة فيها في السفر في الجملة.

و لا يخفى عليك أن الروايات الدلالة على المطلب المذكورة في الوسائل في الباب 11 من أبواب الصّلاة المسافر و إن كانت تبلغ الى اثنتي عشر رواية، إلّا أن بعد احتمال اتحاد بعضها مع البعض الآخر بحسب الحدس، فلا يسلّم إنّ ما صدر من المعصوم من هذه الروايات كان أزيد من ست روايات.

لاحتمال كون الرواية 10 مع الرواية 1 واحدة، لأنّ

السندى بن ربيع المذكور في طريق الرواية 10 لم يبين عمّن يروي الرواية و تكون الرواية مرسلة، فلا يبعد أن يكون راويها هو هشام بن الحكم الراوي للرواية 1 فكانت الروايتان رواية واحدة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 198

خصوصا مع اتحادهما متنا.

و كذلك الرواية 2 مع 12 لأنّ ابن أبي عمير لم يرو عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بلا واسطة، بل يروي عنه بواسطة أو بواسطتين، فلا يبعد أن تكون هاتان الروايتان أيضا رواية واحدة و كان الراوي في الرواية 12 عن أبي عبد اللّه عليه السّلام هو زرارة لا ابن أبي عمير.

كذلك الرواية 4 مع الرواية 8 لكون الراوي في كل منهما محمد بن مسلم، و لاتّحادهما متنا مع اختلاف يسير، لأنّ في الرواية 4 قال: «و لا على المكارى و الجمال» و في الرواية 8 قال: «و لا على المكارين و لا على الجمالين».

و كذلك الرواية 5 و 6 و 11 لأنّ سند الرواية 6 و 11 ينتهي الى سليمان بن جعفر الجعفري، و هو يروي بالواسطة عن أبى عبد اللّه عليه السّلام و الواسطة غير مذكورة باسمه بل المذكور بهذا اللفظ «سليمان بن جعفر الجعفرى عمن ذكره عن أبي عبد اللّه» و يحتمل أن يكون من ذكره لسليمان كان هو إسحاق بن عمّار الراوي للرواية 5 فكانت هذه الروايات الثلاثة أيضا رواية واحدة.

و تبقى رواية اخرى عن السكوني و هي الرواية 9 المتعرضة لعدم وجوب القصر على سبع طوائف، و رواية اخرى عن علي بن جعفر و هي الرواية 7 المتعرضة لحكم أصحاب السفن.

[في ان سند الروايات ينتهى الى ستة نفر]

فبعد هذا الحدس نقول: سند هذه الروايات ينتهى الى ستة نفرات: الأوّل هشام بن الحكم، الثانى زرارة،

الثالث اسحاق بن عمّار، الرابع محمد بن مسلّم، الخامس السكونى، السادس علي بن جعفر، و على كل حال سواء يقوى هذا الحدس أم لا، يستفاد من بعض هذه الروايات كون عدم وجوب القصر على بعض العناوين

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 199

المذكورة في الروايات معلّلا بالعلّة.

فمن العلل المذكورة ما ذكر في الرواية 2 و 12 من كون وجوب الإتمام على العناوين المذكورة في الروايتين هو كون السفر عملهم، حيث قال بعد ذكر العناوين إن وجوب الإتمام عليهم في سفر كانوا أو في حضر «لأنّه عملهم».

و من العلل ما ذكر في الرواية 5 من كون عدم التقصير على الملاح و الاعراب هو «بيوتهم معهم» و كما في الرواية 6 بعد ذكر عدم وجوب القصر في السفر على الأعراب «إنّ منازلهم معهم».

[المراد من قوله عليه السّلام (بيوتهم معهم) عدم بيت لهم]

ثمّ إن المراد من قوله (بيوتهم معهم) أو (منازلهم معهم) هو عدم كون بيت و منزل مستقر في محل لهم أصلا، بحيث لا يكون لهم منزل و هم بلا منزل و مقام في دار الدنيا، و ما اتخذوا بيتا و منزلا لأنفسهم، مثل البدوى الّذي يكون بحسب وضعه الطبيعي لا يزال منتقلا من صقع الى صقع حتى يجد مواضع القطر و نبت الشجر، و لا يكون له موقف مستقر يترددون و يمشون من ناحية الى ناحية اخرى لطلب القطر و نبت الشجر، و تكون بيوتهم معهم، لأنّ بيوتهم عبارة عن الخيمة و الفسطاط يسكنون فيها، و هي معهم، و لم يتخذوا منزلا في محل معين لأنفسهم حتى يصيروا بالسفر بعيدا عن منازلهم مثل سائر المسافرين، و لا يكون السفر لهم من الطوارئ و العوارض الطارية عليهم، و لا يكون أمرهم مثل أمر من يخرج تارة

من منزله و مقامه، و يسافر في طلب أمر الي بلد أو قرية و يصير بعيدا عن منزله بسب هذا السفر، و بعد حصول مقصده يعود مجددا الى منزله و مستقره و يسكن فيه، بل هؤلاء الأشخاص ما دام العمر في السفر يمضون عمرهم بهذا المنوال لأنّ بنائهم في الدنيا على السير و الحركة.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 200

فعلى هذا يمكن أن يدعى خروجهم من رأس من العمومات الدالة على وجوب القصر في السفر على المسافر، و عدم كونهم من مصاديق العام أصلا، و خروجهم موضوعا من العمومات الدالة على وجوب القصر على المسافر في السفر، لأن قوله «1» تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ خطاب على من يكون له منزل و مستقر و مقام معين بحسب وضعه الطبيعى و البناء الأصلي، فأمرهم بأنكم إذا ضربتم في الأرض يعني: إذا سافرتم و خرجتم من منازلكم فعليكم القصر، لأنّ ظاهر الآية و كذا بعض الأخبار الدالة على وجوب القصر على المسافر، هو كون السفر طائرا و عارضا للشخص، فمن كان السفر طارئا عليه، و الحال انّه ليس معنونا بهذا العنوان دائما فعليه القصر، لأنّ اللّه تعالى قال: و إذا ضربتم في الارض يعنى الزمان الّذي ضربتم في الأرض، فلا بدّ و أن يكون للمشمول لهذا الخطاب زمان آخر غير هذا الزمان، لم يكن ضاربا في الأرض حتى يقال له إذا ضربت في الأرض فلا جناح عليك أن تقصّر الصّلاة، فمن كان دائما مشتغلا بالسفر و الضرب في الأرض، و لا مقام و لا منزل له حتى يعدّ بالسفر ضاربا، و يكون بيته معه كما قلنا في البدوي، فلا تشمله

الآية و لا ما يكون لسانه لسان الآية من الأخبار.

[يمكن ان يقال بخروج البدوى موضوعا عن حكم القصر]

فلأجل هذا يمكن دعوى خروج من كان بيته معه أو منزله معه كالبدوي موضوعا عن حكم وجوب القصر، بحيث لو كنا و عمومات وجوب القصر، و لم تكن في البين رواية دالة على عدم وجوب القصر على اصحاب هذا العنوان لقلنا بعدم وجوب القصر على من كان بيته معه، لعدم شمول أدلة وجوب القصر على

______________________________

(1) سورة النساء/ الآية 101.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 201

المسافر له من رأس، و ظهر لك ممّا مرّ منّا ما هو المراد من كون بيوتهم معهم أو منازلهم معهم الّذي جعل علّة لعدم وجوب القصر على البدوي في رواية، و على البدوي و الملاح في رواية اخرى.

[المراد من العلّة اعنى كون السفر عملهم]

و أمّا العلة الأخرى أعني كون السفر عملهم الّذي جعل علّة لأربع طوائف في رواية «1» و لخمسة في رواية «2» اخرى نقول: إن الظاهر من العلة، هل أن كون السفر شغلهم و حرفتهم و كسبهم بحيث إنه لو كان مصداق من مصاديق احد هذه العناوين الاربعة أو الخمسة المذكورة في الروايتين، اتّخذ هذا العمل لا بعنوان الشغل و الحرفة و التكسب، كان خارجا عن مصداقيته لموضوع وجوب الإتمام في السفر، مثلا اتخذ احد شغل المكاراة و صار مكاريا، لكن ليس غرضه من اشتغاله بهذا الشغل التكسب، بل كان غرضه التقرب الى اللّه بهذا العمل، يكون خارجا عن هذا الحكم لعدم شمول العلة له، بعد كون المراد منها هو كون السفر عمله بعنوان التكسب و اتخاذه حرفه.

أو يكون المراد من العلة هو صرف كون السفر عملا له سواء كان بعنوان اتخاذ هذا العمل حرفة و كسبا و شغلا في قبال ساير الحرف و التكسبات و المشاغل أو لا، بل يدور الحكم مدار كون

السفر عمله بأي نحو كان، فيدخل المثال المتقدم في العلة، لأنّ السفر عمله في المثال المتقدم على هذا و لو لم يكن اشتغاله بالمكاراة بعنوان الاكتساب.

الظاهر من كون السفر عملا هو الثاني، لأنه لم يؤخذ في العلة إلّا كون السفر

______________________________

(1) الرواية 2 من الباب 11 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

(2) الرواية 12 من الباب 11 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 202

عملا للشخص، فمتى حصل هذا العنوان أعنى: صار السفر عملا له و بالفارسية «كار أو» فلا يجب عليه القصر في السفر، كما أن العرف يساعد مع هذا، لانهم لا يفهمون من كون السفر عملا للشخص الا هذا.

[هل يلزم كون السفر عملهم دائما او لا؟]

ثمّ بعد كون المراد من العلة أن يكون السفر عملا سواء كان بعنوان اتخاذ السفر حرفة و كسبا أم لا، فهل يلزم أن يكون السفر عملا دائما بحيث يكون شخص المعنون بهذا العنوان في السفر دائما، و لم يكن في منزله و لا حضر له أصلا كما ربما بتوهم من ظاهر قوله في مقام بيان ذكر العلة، بدعوى أن الظاهر من العلة المذكورة كون عمله السفر، و لا ينطبق هذا العنوان الاعلى من يكون دائما متشاغلا بالسفر.

أو لا يلزم ذلك، بل يكفى في كون السفر عمله أن يكون غالبا مشتغلا بالسفر بحيث يكون حضره نادرا أو يكون في مقابل سفره كالمعدوم، و يكون سفره في الكثرة بحد يكون عند العرف السفر عمله و أن يتوقف في بلده أو منزله أيضا بندرة.

أو لا يلزم هذا المقدار أيضا في صدق كون السفر عمله، بل يكفي في صدق هذا العنوان على الشخص أن يكون سفره اكثر من حضره بمعنى: انّه و إن توقف في

سفره توقفا كثيرا و لا يكون حضره بالنسبة الى سفره نادرا، و لكن يكون سفره بحد يكون مقداره بحسب الزمان و العدد- على ما يأتى الكلام فيه- أكثر من حضره، فيعد العرف باعتبار اكثرية سفره من حضره انّه ممّن يكون السفر عملا له.

ثمّ بعد فرض حصول عنوان كون السفر عملا بكون السفر اكثر من الحضر فيقع الكلام في أن الأكثرية المعتبرة في السفر، هل يكون باكثرية السفر من الحضر عددا بمعنى كون عدد اسفاره اكثر من عدد توقفه في بلده و في الحضر، أو يكون أكثرية سفره من حضره زمانا، بمعنى كون زمان أسفاره أكثر من زمان حضره، مثل

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 203

أن يكون في كل شهر عشرين يوما في السفر و عشرة أيّام في الحضر؟

لا يبعد أن يكون الميزان بالأكثرية بحسب الزمان بناء على كون الميزان في حصول عنوان كون السفر عملا بكون السفر أكثر من الحضر، فيصدق كون السفر عملا إذا كان زمان سفر الشخص اكثر من حضره، لا أن يكون عدد السفر اكثر من الحضر «1» ثمّ إنه إن كان المراد من حصول عنوان كون السفر عملا ما ذكرنا في الاحتمال الثالث أعني: باكثرية السفر من الحضر فتصير نتيجة هذه العلة أعني: كون السفر عملا هو ما يظهر من كلمات المشهور من عنوانهم في هذا المقام بكون أحد الشرائط في وجوب القصر هو أن لا يكون سفر المسافر اكثر من حضره.

لانّه على هذا الاحتمال يتحقّق عنوان كون السفر عملا كون السفر أكثر من الحضر.

فبعد ذلك هل نقول بالاحتمال الأول، و إنه لا بدّ في حصول عنوان كون السفر عملا أن يكون الشخص مشتغلا دائما بالسفر؟

أو نقول بالاحتمال الثاني و إنه

يحصل هذا العنوان إذا كان السفر عمله غالبا بحيث يكون مقامه في وطنه نادرا؟

______________________________

(1) أقول: بل لا يعقل كثرة السفر من الحضر بحسب العدد لانّ العدد لا يحصل في كل من السفر و الحضر الا بالخروج من الحضر الى السفر، و من السفر الى الحضر، فالعدد لا بدّ و أن يكون متساويا في الحضر و السفر، مثلا من يخرج من منزله للسفر فيعود من السفر الى منزله، فيعد هما سفرا واحدا و إذا خرج من وطنه ثانيا و سافر ثمّ عاد الى منزله فيعد هذا سفرا ثانيا، و هكذا فلو سافر سفرين فيكون سفره مرتين، و يكون وقوفه في بلده أيضا مرتين لحصول التعدد بالذهاب و الاياب فالسفر و الحضر دائما متساويان في العدد، فلا يفرض اكثرية السفر من الحضر عددا، فيكون الميزان باكثرية السفر من الحضر بحسب الزمان. (المقرر)

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 204

أو نقول بالاحتمال الثالث و إنه يكفي في حصول هذا العنوان كون السفر أكثر من الحضر، حتى صار المستفاد من العلة ما عنونه المشهور من ذكرهم في طي شرائط وجوب القصر، بأنّه من الشرائط أن لا يكون سفره اكثر من حضره.

[المستفاد من رواية زرارة يجب على أربعة طوائف]

ثمّ نقول توضيحا للمطلب: بأن المستفاد من الرواية الّتي رواها زرارة (قال قال أبو جعفر عليه السّلام: «أربعة قد يجب عليهم الإتمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري و الكري و الراعى و الاشتقان لأنّه عملهم» «1» و هي من الروايات الصحيحة تنتهي باسناد ثلاثة الى حريز- أعنى: يكون ناقل كتاب حريز ثلاثة نفرات- و حريز يروي عن زرارة، فالرواية معتبرة من حيث السند، و المستفاد منها هو عدم وجوب القصر على هذه الطوائف الاربعة، بل عليهم الإتمام.

أحدها: المكاري، و

الظاهر منه من يكري الدواب، سواء كان دابّته الحمير أو الجمال أو البغال.

و ثانيها: الكري، و لا يبعد أن يكون المراد منه البريد، لا من يكري نفسه لارسال الكتب.

و ثالثها: الراعي.

و رابعها: الاشتقان، و مضى الكلام في ما هو المحتمل من معنى الاشتقان.

ثمّ بعد ذكر هذه العناوين الأربعة في الرواية، علل الحكم بقوله «لانه عملهم» و الظاهر كون الضمير في قوله «لانّه» راجع الى السفر يعني: لأنّ السفر عملهم، و احتمال كون الضمير راجعا الى مبدأ اشتقاق هذه العناوين الاربعة، فتكون المعنى

______________________________

(1) الرواية 2 من الباب 11 من أبواب الصّلاة من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 205

لأن المكاراة أو الكري او الرعى أو الاشتقانية عملهم بعيد.

فعلى هذا يكون منشأ الحكم كون السفر عملا لهذه العناوين فتكون- على هذا بعد الدقّة- هذه العناوين خارجة عن حكم المسافرين من رأس، لأنّ بعد ما يستفاد من الآية الشريفة (إذا ضربتم) الخ و بعض أخبار الباب بأن القصر المجعول للمسافر يكون من باب كون السفر له على خلاف مقتضى طبعه و وضعه، لأنّ السفر ضعف و مشقه و كلفة عليه، فارفق الشارع و قصر عن الصّلاة في حقه.

فيظهر من ذلك أن المكاري و أخواته الّذي يكون السفر لهم امرا معمولا و لا مشقة لهم، لكونه عملهم، فهم خارجون عن حكم وجوب القصر من رأس، فهم خارجون موضوعا عن المسافر الواجب عليه القصر في السفر، لأنّ حكم القصر يكون ثابتا للمسافر الّذي قلنا، فهم خارجون عنه.

[في ذكر بعض الجهات المربوطة بما نحن فيه]

ثمّ بعد ذلك يقع الكلام في المراد من العلة أعني: كون السفر عملا لهم، و يقع الكلام فيه في بعض الجهات:

الجهة الاولى: يقع الكلام في انّه هل يعتبر فيمن لا يجب عليه القصر،

لأجل كون السفر عملا له، بأن يكون السفر عمله دائما بحيث يكون بنائه مثلا على المكاراة في مدة العمر؟ فلازمه اختصاص حكم وجوب الإتمام في السفر على المكاري الّذي كان بنائه على هذا الشغل دائما.

أو يكفي صرف كون هذا العنوان عمله و لو في بعض الأزمنة، مثل من يكون بنائه على المكاراة في نصف السنة أو ربع السنة؟

أو تتوسع دائرته أزيد من هذا، و هو أن التعليل يشمل من كان عمله المكاراة من باب الاتفاق أياما، مثلا كان له حمير فعزم على المكاراة حتى يجد من يشتري

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 206

حميره فيصير مشتغلا بالمكاراة لاجله، و يسافر مرات بهذا العنوان، فنقول بشمول التعليل له لأنّ المكاراة عمله فعلا.

أو يقال أصلا بكفاية ذلك و حصول العنوان و لو بمرة واحدة، مثلا من يكون عنده جمال، فبنى على أن يسافر بعنوان المكاراة مرة، كان الواجب عليه الإتمام في هذا السفر لأنّ السفر عمله فعلا.

لا يخفى عليك أن السفر مرة واحدة بعنوان المكاراة، غير موجب لوجوب الإتمام في السفر، لعدم تحقق عنوان المكاراة، بذلك السفر و لا يحصل بذلك عنوان كون السفر عملا للشخص، فهذا الفرض خارج مسلما.

و أمّا إذا كان بناء الشخص على المكاراة دائما، و الاشتغال بهذه الحرفة أبدا، فهو داخل في موضوع حكم المكاري الّذي يجب عليه الإتمام في السفر، بل هذه الصورة هي الصورة المتيقنة دخولها تحت هذا العنوان الواجب عليه الإتمام في سفر كان أو حضر.

[لا يبعد دخول من كان بنائه على المكاراة فى نصف سنة او ربعها]

و لا يبعد دخول القسم الثاني أيضا، و هو ما إذا كان بنائه على المكاراة و الاشتغال بهذا الشغل في نصف كل سنة أو ربعها، مثلا في الشتا أو الصيف، لصدق المكاري عليه، و لصدق

كون السفر عمله في هذا الزمان المشتغل بشغل المكاراة.

أمّا الصورة الثالثة و هي ما إذا كان بناء الشخص على الاشتغال بهذا العمل اتفاقا، و لكن لا مرة واحدة، مثل ما إذا كان عنده بغال أو حمير و لا عمل له، و اراد أن يبيعها، فيبني على المكاراة ما لم يبعها، و اشتغل بذلك العمل مدة و سافر مرات في هذا العمل، فهل يجب عليه القصر في هذا السفر المشغول بهذا العمل، أو يجب عليه الإتمام، فهذه الصورة مورد الإشكال، فهل نقول: بوجوب القصر عليه لعدم صدق

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 207

كون السفر عمله بمجرد ذلك، أو نقول: بوجوب الإتمام عليه بدعوى صدق كون السفر عمله في هذه المدة الّتي اشتغل فيها بالمكاراة؟

الجهة الثانية: في انّه هل يعتبر في صدق كون السفر عملا أن يكون سفر الشخص في خصوص هذا العمل أم لا؟

مثلا تارة يسافر المكاري في عمله، بأن يكرى دوابه و يذهب معها، فسفره في عمله بلا شبهة، و هذا هو القدر المتقين من الصورة الّتي تكون العلة شاملة لها

و تارة يسافر هذا المكاري في غير عمله، و في هذا القسم يتصور:

تارة بأن يسافر مع دوابه في غير عمله، مثل أن يسافر لحمل أهل بيته للزيارة، مثلا من بلده الى بلد آخر الّذي يكون مكاراته من بلده إليه، فهو في هذا السفر يكون وضعه بعينه كسفراته الواقعة منه في المكاراة، غير انّه في ساير اسفاره كان يحمل الأمتعة أو الاشخاص على دوابه، و في هذا السفر يحمل أهل بيته.

و تارة يسافر بنفسه مثلا الى الزيارة، و لا يحمل دوابه معه، فهو في هذا السفر ذهب و سافر في غير شغله و بدون وسيلة

شغله، أعني: بدون دوابه، فيقع الكلام هو الحق في هذه الفروع.

أمّا الصورة الاولى فكما قلنا، فهي القدر المتقين من الصور الّتي تشمل العلة لها، و امّا الصورة الثانية فهل يصدق في كلتا الصورتين أن السفر عمله، أولا يصدق كون السفر عمله، أو يقال بالتفصيل بين الصورة الاولى من الصورة الثانية، و بين الصورة الثانية، من الثانية فنقول بوجوب القصر في الاولى منها دون الثانية منها.

و هل يكون فرق في الصورتين بين ما يكون الضمير في قوله «لأنه عملهم»

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 208

راجعا الى السفر فيكون حاصل المراد من العلة، هو أن عدم وجوب القصر على هذه العناوين المذكورة في الرواية يكون لاجل كون السفر عملهم.

و بين ما يكون الضمير راجعا الى مبدأ اشتقاق هذه العناوين، فيكون حاصل المراد من العلة هو عدم وجوب القصر عليهم لأنّ المكاراة أو الكري أو الرعي أو الاشتقانية عملهم، كما ذكرنا احتماله قبلا و استبعدنا احتماله، لكونه خلاف الظاهر للزوم ذلك أولا حمل الضمير على مبدأ اشتقاق هذه العناوين لعدم إمكان إرجاع الضمير الى نفس هذه العناوين، لعدم صحة أن يقال بأن المكارى عمل المكاري، بل يريد أن يقال المكاراة عمل المكاري فيصير إرجاع الضمير الى مبدأ اشتقاق العناوين المذكورة لا إلى انفسهم، فعلى هذا يلتزم عود الضمير الى غير ما هو المذكور قبل ذكر الضمير.

[العلة لوجوب القصر كون السفر عملهم]

و ثانيا إن ما هو موضوع له للضمير كما حققنا في محله في الاصول هو الإشارة، و الإشارة لا بدّ و أن تكون الى شي ء معيّن، و ما هو معين و ظاهر هنا هو كون الضمير إشارة الى السفر، فيكون المعنى أن السفر عملهم.

أم لم يكن فرق في هذا الحيث الّذي يكون

مورد الكلام من حيث ارجاع الضمير الى السفر، أو الى مبدأ اشتقاق هذه العناوين، لأنه بناء على إرجاع الضمير الى مبدأ اشتقاق هذه العناوين، و كون حاصل العلة إن المكاراة أو الرعي أو الكري أو الأشتقانية عملهم مع ذلك لا إشكال في أن كون هذه العناوين عملهم في السفر صار سببا لعدم وجوب القصر عليهم في السفر، و أن هذه الطوائف حيث كون عملهم هذه الأمور في السفر لا يجب عليهم القصر، و نفهم ذلك من مناسبة الحكم و الموضوع، فتكون العلّة على هذا أيضا كون السفر عملهم بالمكاراة او بالكرى أو

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 209

الرعى أو الاشتقانية، فلا فرق في ما نحن بصدده بين كون الضمير راجعا الى مبدأ هذه العناوين، و بين كون الضمير راجعا الى السفر، لأنه واضح بأن العلة تكون كون السفر عملهم، فبعد عدم الفرق بينهما و مضافا الى بعد احتمال كون الضمير راجعا الى مبدأ اشتقاق هذه العناوين كما قدمنا، فما هو الحق في المقام؟

فهل نقول: باشتراط كون السفر عملهم في خصوص هذه العناوين حتى يجب القصر على المكاري مثلا إذا كان سفره غير عمله؟

أولا يشترط كون السفر في خصوص هذه العناوين عملهم، بل يكفي صدق كون عملهم أحد هذه العناوين، و لو سافر اتفاقا في سفر في مقصد غير هذه العناوين التي تكون شغله و حرفته فوجب عليه التمام.

«و قد اكتفى سيدنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام بذكر الاحتمالين و وجههما و لم يقوي أحد طرفي المسألة».

[ذكر الاحتمالات الثلاثة فى كون المراد من العناوين]

و أمّا ما ورد في الرواية 1 و 10 و هو قوله عليه السّلام (المكاري و الجمال الّذي يختلف و ليس له مقام) فالظاهر منه هو تقييد الحكم

بوجوب التمام على المكاري و الجمال بكون المكاري و الجمال ممّن يختلف و ليس له مقام، فيحتمل في هذا الكلام احتمالات:

الاحتمال الأول: ما يظهر من مفتاح الكرامة من كون المراد من هذا القيد هو أن لا يبقيا عشرة أيّام في منزلهم، و جعل قوله عليه السّلام (يختلف و ليس له مقام) من ادلة وجوب القصر على المكاري إذا أقام عشرة أيّام في منزله. «1»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة، ج 10، ص 541.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 210

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من قوله «يختلف و ليس له مقام» هو أن لا يكون للمكاري منزل و محل و مقام اصلا، فالمكاري و الجمّال إذا لم يكن لهما منزل مستقر و مقام معين أصلا، فلا يجب عليهما القصر.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد هو أن المكاري و الجمال الذين يكونان غالبا في السفر و يكون وقوفهما في الوطن نادرا بحيث يكون كالمعدوم، و يعد كلا مقام و كلا منزل، يجب عليهما الإتمام و لا يجب عليهما القصر.

إذا عرفت هذه الاحتمالات الثلاثة نقول:

إنّه يأتي الكلام عند ذكر بعض الروايات الواردة في المسافر الّذي أقام عشرة أيّام في منزله، انّه على تقدير تمامية هذه الروايات، إذا اقام المكاري عشرة أيّام يجب عليه القصر إذا سافر، لأنه أقام عشرة أيّام في منزله، فيحمل قوله (يختلف و ليس له مقام) الوارد في الرواية 1 و 10 من الباب 11 من أبواب الصّلاة المسافر من الوسائل، على أن المراد من المكاري و الجمال هو الذي يختلف و لم يقم في بلده عشرة أيّام، لا أن تكون هذه الرواية أعني الرواية 1 و 10 دليلا بنفسها على اعتبار عدم إقامة العشرة في البلد على المكاري الّذي

يجب عليه التمام، كما احتمله صاحب مفتاح الكرامة رحمه اللّه، لانه لا دلالة للرواية على هذا بظاهرها، بل قابل للحمل على ما يستفاد من الروايات الّتي يأتي الكلام فيها، و نقول ما ينبغى من أن يقال في الرواية 1 و 5 و 6 من الباب 12 من أبواب الصّلاة المسافر من الوسائل أن هذه الثلاثة ليست إلا رواية واحدة، و ان عدها صاحب الوسائل ثلاثة روايات، و يأتي الكلام في مقدار دلالتها إنشاء اللّه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر لك ما هو المراد من العلتين الواردتين في بعض روايات

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 211

الباب الاولى التعليل بكون السفر عملا، و الثاني التعليل بكون بيوتهم معهم.

[العناوين الّتي ذكر في الروايات تبلغ عشرة]

فنقول إنّ العناوين الّتي ذكرت في روايات الباب تبلغ عشرة:

المكاري، و الجمال، و الكري، و الراعي، و الاشتقان، و البدوي، و الملاح، و الجابي الّذي يدور في جبابته، و الأمير الّذي يدور في إمارته، و التاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق.

و تبلغ سبعة بناء على عد الجمال من مصاديق المكاري، لأنّ كلا منهما يشتغلون بكرى دوابهم إمّا الحمار و إمّا البغل و إمّا الجمل في الاسفار لحمل مال التجارة أو الاشخاص، و بناء على جعل الراعي من مصاديق الكري، لأنّ الكري من يكري نفسه إما لأنّ يسافر للمواظبة على الدواب مثلا، أو يصير بريدا مثلا، أو يجعل راعيا للأغنام، و كذلك الاشتقان و إن بقي الإشكال في فهم المراد منه، و لكن بناء على كون المراد منه البريد فهو أيضا من مصاديق الكري.

[ذكر المراد من العناوين المذكورة]

إذا عرفت ذلك فنقول: إن من العناوين المذكورة، البدوي المعبر عنه بالاعراب في بعض روايات الباب، فالمراد منهم من كان بنائه على السير من جانب الى جانب آخر، و بيته معه و ما اختار منزلا لنفسه حتى يصير بالسير بعيدا عنه، بل كلما يذهب من مكان ينزل في مكان يكون بيته و منزله معه، و لا يلزم في صدق هذا العنوان عليه أن لا يتوقف في محل أياما مثلا شهرا أو شهرين، بل الميزان هو عدم اختياره لنفسه منزلا مستقرا غير ما هو معه و يسوق مع نفسه، فمتى يكون معنونا بهذا العنوان يجب عليه الإتمام كمن ليس مسافرا.

نعم لو اختار لنفسه منزلا و مستقرا، و ترك وضعه و خرج من مصداق البدوي، فيجب عليه التقصر إن سافر في هذا الفرض، كما انّه لو كان وضعه كذلك

تبيان الصلاة،

ج 1، ص: 212

أعني: بيته معه و لكن سافر الى محل في غير الجهة الّتي يذهب من صقع الى صقع، مثلا يكون بيته معه و يطلب موضع القطر و منبت الشجر، و لكن اتفق له السفر الى محل لغير ما هو ديدنه، مثلا سافر للزيارة، فيجب عليه القصر في هذا السفر، لعدم كونه في هذا السفر على ما هو وضعه و ديدنه، بل هو في هذا السفر سافر في غير جهة بدويته و ليس في هذا السفر بيته معه، فلا يشمله التعليل.

و من هذه العناوين الملاح، فإن كان الملاح بحيث لا يكون له مقام و بيت مستقر في البر، و تكون نسبة كل من السواحل إليه بالسوية، لعدم اتخاذ بعضها محلا لنفسه، بل بيته معه بمعنى: انّه في البحر و على سفينته، فمعه بيته و منزله متى يذهب مع السفينة في البحر، يكون حاله كحال البدوي و شبيه به في موضوعيته لعدم وجوب القصر.

و إن كان له بيت و منزل و مستقر في أحد البلاد أو القرى، و كانت ملا حته بأن يذهب مع السفينة، و يجي ء الى المنزل، و يكون شغله هذا العمل بالذهاب و العود الى منزله، فيكون هذا القسم من الملاح اشبه بالمكاري، لأنه يبعد من وطنه و منزله بالسفر و لكن السفر يكون عمله.

و من هذه العناوين المكاري، فالمتعارف فيه من كان له منزل و بيت و مستقر في محل، و له وطن معيّن، و لكن كما قلنا في طي الكلام في مقام ذكر المراد من قوله «لأنّه عمله» أن السفر يكون عمله، و يكون المتعارف في المكارين هذا القسم، لأنّهم يشتغلون بهذا الشغل، و المتعارف من المشتغل بهذا الشغل أن

يكون بنائه بأن يذهب من منزله الى الأسفار لحمل الاشخاص أو لحمل مال التجارة و غيرها، و يعود الى منزله، فهو مسافر و يكون هذا السفر شغله و يبعد عن وطنه و منزله، و لكن يجب

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 213

عليه الاتمام لكون السفر عمله.

نعم لو فرض وجود مكار لا بيت له يستقر فيه أصلا، بل يكون ممّن بيته معه، و يكون دائما من محل الى محل آخر، فيكون شبيها بالبدوي، و لكن هذا الفرض خارج عن المكارى المتعارف.

و من هذه العناوين الجمال، و هو مثل المكاري بحسب المتعارف، فإنه أيضا مع كونه ذا منزل مستقر يخرج من منزله و يعود إليه مع جماله كالمكاري.

و من هذه العناوين الكري، فهو من يكري نفسه.

فإن أكرى نفسه لمسافات لم تبلغ المسافة الموجبة للقصر، فهو خارج عن موضوع الكري الوارد في أخبار الباب، لأنّ مقتضى هذه الأدلة إخراج هذه العناوين من الادلة الدالة على وجوب القصر.

فيكون الحاصل أن من يجب عليه القصر مع قطع النظر عن طروّ أحد هذه العناوين، لا يجب عليه القصر بل يجب عليه الإتمام إذا طرأ عليه أحد منها، فمن لم يكن القصر عليه واجبا- مع قطع النظر عن ذلك- لاجل جهات اخرى مثل من كان سفره أقل من المسافة الشرعية، فلا نظر لهذه الادلة إليه، لعدم وجوب القصر عليه من رأس و لو لم يطرأ أحد هذه العناوين.

لان الظاهر من هذه الادلة هو كون هذه العناوين بنفسها موجبة للقصر مع قطع النظر عن شرائط اخرى.

فعلى هذا نقول: إن الكري و كذلك غيره من العناوين المذكورة كالملّاح إذا كان سيرهم أقل من المسافة الموجبة للقصر فيكون خارجا عن موضوع الكلام في

تبيان الصلاة،

ج 1، ص: 214

هذا المقام.

و إن أكري نفسه للمسافات البالغة حد المسافة الموجبة للقصر، فإن كان السفر عمله فهو كالمكاري لأنّ ذلك اعني الكري عمله و تشمله العلة، و إن كان ذلك شغله، و فرض عدم بيت له أصلا، بل كان كل يوم في محل و لا وطن مستقر له، فهو كالبدوي و ان كان ذلك فرضا نادرا غير واقع.

و من هذه العناوين الراعي، فإن كان رعيه في أقل من المسافة الموجبة للقصر، مثل أن يرعى الاحشام و الأغنام في حوالى البلد أو القرية، و لم يبعد من محله إلّا الى فرسخ أو فرسخين مثلا، فيجب عليه الإتمام، لا لكون الرعي شغله، بل لعدم كونه بعيدا عن وطنه بحد المسافة الموجبة للقصر، و هذا القسم هو المتعارف من الراعي.

و إن كان الراعي راعيا و يبعد عن وطنه أزيد من المسافة الموجبة للقصر، و كان الرعي شغله بحيث يكون كل يوم ذاهبا الى المسافة البالغة حد المسافة الشرعية و جائيا كذلك، و يكون السفر عمله، فهو كالمكاري.

و إن كان راعيا و يكون وضع رعيه بأنّه يدخل كل يوم في واد من البوادى فهو كل يوم في واد و محل غير اليوم الآخر، و لا مستقر و منزل له أصلا، فيكون كالبدوي، و لكن هذا القسم غير متعارف في الراعي.

[الكلام حول التاجر الّذي يدور في تجارته]
اشارة

و من هذه العناوين التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق.

و هذا العنوان كان مذكورا في رواية السكوني فقط و المراد منه يظهر بعد بيان المراد من التاجر و اقسامه.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 215

فنقول: إن التاجر، و هو الّذي يكون شغله التجارة، و بعبارة اخرى هو الّذي جعل شغله أن يشتري شيئا أو اشياء

بقيمة رخيصة حتى يعبيه بقيمة غالية، و كان هذا شغله فهو على قسمين: قسم منه هو الّذي يكون شغله ذلك، و يريد الانتفاع و الفائدة باختلاف الزمان مثل التاجر الّذي يشتري الحنطة مثلا في الصيف، و يريد أن يبيعها في الشتاء، لأنّ قيمتها رخيصة في الصيف و غالية في الشتاء.

و قسم منه هو الّذي يشتري الأجناس و الأشياء بقيمة، و كان وضع كسبه و تجارته أن يشتري بعض الأجناس في بعض البلاد بقيمة رخيصة حتى يبيعها في بلد آخر بقيمة غالية، فيكون نحو انتفاعه باختلاف الأمكنة، لأنه يطلع على قيمة الأجناس في أسواق البلاد، فيدري أن قيمة الشي ء الفلاني رخيصة في بلد و غالية في بلد آخر، فيشتري في البلد الّذي تكون قيمته رخيصة لأنّ يبيعه في البلد الآخر الّذي تكون قيمته فيه غالية، و إن اتفق تارة انّه يبيع ما اشترى في بلد في هذا البلد لصيرورة قيمته غالية بالنسبة الى قيمته الّتي اشتراها في هذا البلد، و لكن وضع تجارته و تحصيل النفع منها يكون باختلاف المكان، لا الزمان، و هذا القسم أيضا يتصور على قسمين:

[ذكر اقسام التاجر الّذي يدور فى تجارته]

القسم الأول: أن يكون وضع تجارة التاجر على هذا النحو، و لكن يكون بنائه على اشتراء الاجناس من بلده و إرسالها الى بلد آخر بوسيلة المكاري أو الجمال أو وسائل اخرى، تكون قيمة الاجناس الّتي اشتراها فيها أغلى من قيمة بلده، بدون أن يذهب هو بنفسه مع متاعه و أجناسه، مثلا يشتري الرمان من قم و يرسله الى طهران بوسيلة المكاري، لأنّ يبيعه وكيله او عامله مثلا في الطهران، و هو بنفسه في قم و لم يخرج مع رمّانه الى طهران.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 216

القسم الثاني:

انّه يشتري بعض الامتعة من بلد و يسوقه الى بلد آخر بنفسه، فهو يذهب مع متاعه من بلد الى بلد آخر لأنّ يبيع في هذا البلد ما اشتراه في بلده و يكون وضع تجارته بهذا النحو، و بنائه على الانتفاع من التجارة بهذا الطريق.

إذا عرفت ما هو المراد من التاجر، و عرفت أقسامه، فما يقع الكلام فيه من هذه الاقسام- فيما نحن بصدده في هذا العنوان، أعني: التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق- الى سوق هو القسم الثاني، من القسم الثاني لأنّ المراد من التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق ليس التاجر الّذي يكون وضع تجارته كما فرض في القسم الأوّل و لا القسم الأول، من القسم الثاني.

لانّ قسم الأوّل يكون وضع تجارته باختلاف الزمان لا المكان، فهو في مكان واحد يريد الانتفاع من تجارته باختلاف الأزمنة.

و القسم الأوّل من الثاني أيضا و إن كان وضع تجارته و الانتفاع منها باختلاف الامكنة، لكن لا يذهب مع متاعه من سوق الى سوق.

فالقابل هو القسم الثاني من القسم الثاني، و هو الّذي أراد الانتفاع من التجارة، و وضعه في تجارته بأن يسوق بنفسه متاعة من سوق بلد الى سوق أخر، و هذا القسم يتصور له أربعة صور.

فتارة يكون وضع تجارة التاجر على أن يشتري شيئا من سوق بلد، ثمّ يخرج الى بلد آخر و يبيعه في سوق هذا البلد، سواء كان سوقه كالأسواق المعمولة في زماننا، أو كالأسواق المعمولة سابقا عند الأعراب، مثل سوق عكاظ، ثمّ يشتري شيئا من سوق هذا البلد و يذهب الى بلد آخر و يبيعه في سوق هذا البلد، و هكذا.

و تارة يكون وضع تجارته بأن يشتري شيئا من

سوق بلد و يذهب به الى بلد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 217

آخر، و يبيعه في سوق هذه البلد، و يشتري متاعا يدري بأن فيه النفع إن ذهب به الى البلد الّذي خرج منه، فيشتري هذه المتاع و يعود الى البلد الّذي خرج منه، و لا يسافر الى بلد ثالث، و كان شغله التجارة بهذا النحو، مثلا يشتري متاعا من قم و يذهب الى طهران فيبيعه، و يشتري متاعا آخر من طهران و يعود الى قم و يبيعه فيه، و هكذا.

و تارة يكون وضعه في التجارة بأن يشترى متاعا أو أمتعة من بلد، و يذهب به الى بلد آخر و يبيعه، و لا يشترى شيئا في هذا البلد للتجارة، بل يعود مجددا الى البلد الأول، و يشتري أيضا متاعا و يذهب به الى ذلك البلد لأنّ يبيعه، و هكذا يكون وضع تجارته بأن يشتري الرمّان من قم و يسوقه بنفسه الى طهران، و يبيعه في سوقه، و يعود الى قم بدون أن يشتري مال التجارة من الطهران، ثمّ يشتري مجددا من قم متاعا و يعود الى طهران لأنّ يبيعه، و يكون بهذا النحو وضعه في التجارة.

و تارة يكون وضع التاجر في التجارة بعكس ذلك بأن يذهب من بلده يشتري من بلد آخر متاعا حتى يعود و يبيعه في بلده، مثلا يخرج من قم و يذهب الى طهران و يشتري متاعا، و يعود و يبيعه في قم بدون أن يسوق بنفسه من قم الى طهران متاعا للبيع في طهران.

لا يبعد أن يكون الظاهر من قوله عليه السّلام على ما في رواية السكوني (التاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق) هو الصورة الاولى من هذه

الصور الأربعة، و هو أن يكون وضع تجارته بأن يشتري الأمتعة من بلد، و يسوقه الى بلد آخر و يبيعه، ثمّ يشتري الأمتعة من هذه البلد، و يذهب الى بلد آخر و يبيعه فيه، و

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 218

يشتري فيه أيضا أمتعة لأنّ يبيعها في سوق آخر، فهو يدور في تجارته من سوق الى سوق بدعوى كون الظاهر من سوق الى سوق هو هذا.

و لكن إذا راجعنا الى العرف، و نحاسب بالذوق العرفي نرى عدم الفرق بين هذه الصور الأربعة، بل يصدق على كلها بأنّه تاجر يدور في تجارته من سوق الى سوق.

فإمّا أن يدور في تجارته من بلد الى بلد آخر، و منه الى بلد ثالث، و هكذا كما فرض في الصورة الاولى.

أو يدور في تجارته بأن يسوق متاعا من بلد الى بلد، و يبيعه فيه، و يشتري متاعا آخرا من هذا البلد و يبيعه في البلد الأوّل بعد العود كالصورة الثانية.

أو يدور في تجارته بأن يشترى متاعا و يسوقه بنفسه من بلده الى سوق بلد آخر، و يبيعه و يعود الى بلده، و يشتري مجددا متاعا، و يذهب الى البلد الآخر هكذا كالصورة الثالثة.

أو يدور في تجارته بأن يخرج من بلد، و يدخل في بلد آخر، و يشتري من سوقه متاعا، و يبيعه في بلده، و يكون بهذا النحو وضع تجارته كالصورة الرابعة.

[لا يصدق العنوان بمجرد مرة بل لا بدّ ان يعد شغله]

ففي كل هذه الصور يصح أن يقال: هو تاجر يدور في تجارته من سوق الى سوق، و لا إشكال في عدم صدق هذا العنوان على الشخص بمجرد فعل ذلك مرة، بل لا بدّ و أن يكون بحيث يعد شغله و تجارته الدور من سوق الى سوق، فيدخل على

ما مر في هذا العنوان هذه الصور الأربعة.

ثمّ بعد ذلك يقع الكلام في انّه هل يكون العنوان المأخوذ- أعني: التجارة-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 219

دخيلا في ثبوت هذا الحكم أعني: عدم وجوب القصر، بل وجوب الإتمام، أم لا يكون دخيلا؟

فإن فرض أن أحدا في شغله و حرفته و صناعته يخرج من بلده الى بلد آخر، و يشتغل بصنعته، و يعود الى بلده، و يكون ذلك شغله و وضع شغله، كالتجار الذين يكون وضع تجارتهم بالخروج من محل الى محل آخر و يشتغل بشغله و يعود الى محله، ثمّ يخرج الى بلد آخر، و هكذا.

فهل يمكن أن يقال بدخول مثل هذا الشخص في العنوان الماخوذ في رواية السكوني، و هو قوله عليه السّلام (التاجر الّذي يدور) الخ أولا؟

اعلم أن غرضنا هو أن عنوان التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق أولا يشمل التاجر الّذي يكون وضع تجارته باحد انحاء الأربعة المتصورة المتقدمة أم لا، و ثانيا بعد ثبوت وجوب الإتمام لهذا العنوان، فهل يشمل هذا العنوان لمن كان له صنعة و حرفة كالنجار و الخياط أو غيرهما، و كان وضع كسبه بأن يسافر الى محل او محلات، و يعمل عمله، و ينتفع من عمله، و يكون نحو شغله يدور من سوق الى سوق أولا يشمل له، بل يختص بخصوص التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق جمودا على ظاهر العنوان الماخوذ في رواية السكوني.

و بعبارة اخرى مع قطع النظر عن التعليل الوارد في بعض روايات الباب بقوله عليه السّلام «لأنه عملهم» و مع قطع النظر عن شمول هذه العلة لهذه الصور.

[يشمل عنوان تاجر يدور فى تجارته لصاحب الحرف]

يكون الكلام في أن عنوان «التاجر الّذي يدور في تجارته من

سوق الى سوق» الوارد في رواية السكوني بعد فرض صحة سندها، هل يشمل لكل هذه الصور الأربعة المتقدمة، و هل يشمل غير التاجر الّذي يكون وضع حرفته و صنعته

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 220

مثل هذا التاجر، أعني يكون في حرفته و صناعته و خياطته يدور من سوق الى سوق؟

بل و هل يمكن أن يقال: بشموله لكل من يشتغل بالسفر بهذا النحو، بأن يذهب من بلده الى بلد آخر و يجي ء و هكذا، و لو لم يكن تاجرا، و لا كاسبا، و لا ذي حرفة و صنعة، مثل من يكون بنائه بأن يخرج مثلا من النجف الأشرف الى كربلاء للزيارة، فيكون دائما مشتغل بهذا العمل يذهب و يجي ء، و يجي ء و يذهب.

أولا يمكن أن يقال بشمول هذا العنوان لهذه الفروض.

اعلم انّه كما قلنا يمكن دعوى شمول هذا العنوان في نظر العرف للصور الأربعة المتقدمة في التاجر الّذي يذهب للتجارة، و إن كان لا يبعد دعوى كون المتبادر من قوله (تاجر يدور في تجارته من سوق الى سوق) لخصوص الصورة الاولى من الصور الاربعة المتقدمة، و لكن العرف يلقى الخصوصية، أعني: خصوصية كون دوره من سوق بلد الى سوق بلد، و منه الى سوق بلد آخر و هكذا، بل يكفي كون دوره من سوق الى سوق اعني: من بلد للتجارة الى آخر، للبيع و الشراء.

و كذلك مثل أصحاب الحرف و الصناعات، فإنهم أيضا يعطون عملهم، و يأخذون بدلا بعنوان المعاوضة أو الاجرة من الأشخاص، فانّهم أيضا داخلون، لعدم الخصوصية في نظر العرف لخصوص التاجر، فيشمل العنوان لكل من يكون تجارته و حرفة و صنعته و كسبه بهذا النحو.

و أمّا غير ذلك، كمن كان عمله ذلك، لكن

لا بهذه العناوين مثل من يذهب من النجف الى كربلاء للزيارة و يعود، و هكذا يكون عمله، فشمول هذا العنوان له مشكل، بل نقول بعدم شمول هذا العنوان له، هذا حال هذا العنوان، اعني: التاجر

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 221

الّذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق.

و هنا كلام آخر، و هو أن وجوب الإتمام و عدم وجوب القصر على صاحب هذا العنوان- أعني: التاجر الّذي يدور في تجارته- و من كان بحكمه بعد الغاء الخصوصية، يكون في ما كان ذلك شغل الشخص دائما، أو يكفي في وجوب الإتمام عليه في السفر مجرد كون ذلك شغله و إن كان مرة واحدة، أولا يلزم كون شغله دائما الدور من سوق الى سوق، و إن لم يكف في صدق هذا العنوان عليه وقوعه منه مرة واحدة، و لازم ذلك كفاية ذلك العنوان في وجوب الإتمام بمجرد كون ذلك شغله و لو كان في بعض السنة مثلا ستة اشهر من كل سنة، و لا يعتبر أن يكون مشتغلا بهذا العمل في تمام السنة، أولا يكفي ذلك؟

الاقوى كفاية ذلك لصدق هذا العنوان عليه عرفا و لو في بعض السنة.

[هل يلزم حصول هذه العناوين فى اسفار موجبة للقصر]

الجهة الثالثة: هل يعتبر في هذه العناوين المذكورة في رواية زرارة «المكاري الخ» أن يكون حصول هذه العناوين للشخص في سفر لو لم تكن هذه العناوين يكون القصر واجبا عليه أولا يلزم ذلك، مثلا يلزم أن يكون حصول عنوان المكاراة للمكاري بالسفر الّذي لو لم يوجب الشارع الإتمام على المكاري، كان الواجب عليه القصر، أولا يعتبر ذلك، بل يكفي تحقق عنوان المكاراة و اتصافه بكونه مكاريا على أي وجه اتفق.

و بعبارة أخرى تارة يبني الشخص على المكاراة، و يسافر

أسفارا بهذا القصد حتى يقال في حقه كونه مكاريا، و كانت هذه الاسفار الّتي صدرت منه من الأسفار الّتي كان الواجب عليه القصر فيها لو لا عنوان كونه مكاريا، مثل أن يكون سفره في غير المعصية، و مع القصد، و في أزيد من المسافة الشرعية، و هكذا بحيث

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 222

يكون أسفاره جامعة لجميع شرائط القصر غير شرط عدم كونه مكاريا، بحيث لو لم يكن مكاريا يكون الواجب عليه القصر.

و تارة يسافر المكاري أسفارا يحصل له عنوان كونه مكاريا عند العرف، و لكن كانت أسفاره بحيث لا يجب عليه القصر و لو مع قطع النظر عن كونه مكاريا، مثل ما إذا كان سفره في ما دون المسافة، أو بلا قصد، أو في المعصية و كون مكاراته في هذا القبيل من الأسفار.

[ذكر بعض الفروع المربوطة بالمقام]

فهل يعتبر في وجوب الإتمام على المكاري أن يكون حصول هذا العنوان له من قبيل الأوّل.

أو يكتفى في وجوب الإتمام عليه حصول هذا العنوان له و إن كان بنحو الثاني، و يتفرع على ذلك فروع:

الفرع الأول: من يكون مكاريا، و لكن كانت مكاراته في سفر المعصية، مثل أن يكون شغله المكاراة لحمل الخمر مثلا من محل الى محل آخر دائما، و لذا يكون سفره سفر المعصية، فاذا أراد أن يكري دوابه و يعمل عمله في سفر لم يكن معصية فهل يجب عليه القصر في هذا السفر أو يجب عليه الإتمام.

فإن قلنا بأنّه يعتبر في المكاري كون حصول هذا العنوان له في سفر لو لم يكن عنوان المكارة يجب عليه القصر، فلا بدّ من أن يلتزم بوجوب القصر عليه لا الإتمام، لأن في هذا الفرع هذا المكاري بعد كون مكاراته في سفر

المعصية لم يكن الواجب عليه القصر لو لا عنوان المكاراة، بل و لو لم يكن مكاريا كان الواجب عليه الإتمام أيضا لكون سفره معصية.

و إن قلنا بعدم اعتبار ذلك، و كفاية حصول عنوان المكاراة للمكاري بأي

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 223

وجه اتفق، فيجب عليه الإتمام، لأنه في هذا السفر مكاريا، و يجب الإتمام على المكاري.

الفرع الثاني: إذا كان حصول عنوان المكاراة للمكاري في المسافة التي لم تبلغ حد المسافة الموجبة للقصر، مثل مكاري الّذي يشتغل بشغل المكاراة في فرسخين أو ثلاثة فراسخ، فهل يجب عليه القصر إذا سافر في عمله- أعني: في المكاراة- الى المسافة البالغة حد القصر، أو يجب عليه الإتمام.

فإن قلنا بلزوم حصول هذا العنوان للمكاري في السفر الّذي يجب عليه القصر لو لا حيث المكاراة، فلا يجب عليه الإتمام، لأنه ليس من مصاديق المكاري الذي يجب عليه الإتمام على هذا.

و إن لم نقل بذلك فيجب عليه الإتمام، لأنه مكار و عمله السفر، و هذا السفر سفر في عمله و السفر عمله.

الفرع الثالث: لو اشتغل المكاري بهذا الشغل، لكن فرض كون اشتغاله بهذا العمل في السفر بلا قصد المسافة الشرعية و إن فرض بلوغه بحد المسافة الشرعية، لكن كان غير قاصد للمسافة الشرعية الموجبة للقصر، ثمّ اتفق أن يسافر في عمله سفرا مع القصد الى المسافة الموجبة للقصر، فهل يجب عليه القصر أو الإتمام؟

يمكن أن يقال: بوجوب القصر عليه بدعوى كون مكاراته قبل هذا السفر في غير السفر الّذي لو لم يكن مكاريا كان الواجب عليه القصر، بل كان شغله في الأسفار لو لم يكن مكاريا لا يجب القصر عليه لعدم كونه قاصد المسافة، و ادعاء كون حصول المكاراة له في الأسفار

الّتي لو لم يكن عنوان المكاراة كان القصر عليه لازما في صدق المكاري الّذي يجب عليه الإتمام في السفر.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 224

و يمكن أن يقال بوجوب الإتمام عليه في هذا السفر، لكونه مكاريا و قد سافر في عمله، فالسفر عمله، و لا يلزم في صدق المكاري عليه ما قلت.

[هل نقول بالاحتمال الاول او الثانى]
اشارة

إذا عرفت هذه الفروع الثلاثة.

فنقول: هل نلتزم بأن الإتمام واجب في السفر على المكاري الّذي كان من قبيل الأوّل فقط؟

أو نقول: بعدم لزوم ذلك، بل يكفي كونه مكاريا في وجوب الإتمام عليه في السفر باي وجه حصل هذا العنوان

أما منشأ أن يقال بالاحتمال الأوّل فهو تارة بأن يقال: إن الظاهر من عدم وجوب القصر على المكاري و اخواته المذكورة في الرواية، هو كل مكار يكون الواجب عليه القصر في السفر لو لا هذا العنوان، لكون الشرط في المسافر الّذي يكون الواجب عليه القصر لو لا طروّ هذه العناوين، هو عدم كونه واجدا لأحد هذه العناوين، فعلى هذا كل من يجب عليه القصر في السفر لو لا هذه العناوين لا يجب عليه القصر لأجل هذه العناوين، فلا بدّ من كون المراد هو تأثير هذه العناوين في عدم وجوب القصر في ما لو لم تكن هذه العناوين لكان الواجب هو القصر، فمن صار مكاريا في الأقل من المسافة، أو في سفر معصية، أو في السفر الّذي كان غير قاصد فيه الى المسافة مثلا، لا يجب عليه القصر و لو لم تكن هذه العناوين، فلم يكن في هذا السفر الّذي يسافر في عمله على وجه الحلال، أو مع القصد، أو في الأزيد من المسافة الشرعية الإتمام، لأنه لم يكن معنونا في هذا السفر بعنوان المكاري الّذي

لا يجب عليه القصر، لكون المراد من المكاري الّذي يجب عليه الإتمام في السفر، هو المكاري الّذي صار مصداقا لعنوان المكاري الّذي لو لم يكن في البين حيث المكاراة

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 225

كان القصر عليه واجبا.

فان كان الوجه في اعتبار كون المكاري الواجب عليه الإتمام كون حصول مكاراته في الأسفار الّتي لو لم يكن عنوان المكاراة لكان الواجب عليه القصر هذا الوجه.

ففيه: إن حصول عنوان المكاراة، و إن كان للمكاري في غير الأسفار الّتي لو لم يكن عنوان المكاراة كان الواجب عليه الإتمام إمّا لكون السفر معصية كالفرع الأول، أو في الأقل من المسافة الشرعية كالفرع الثاني، أو لكونه غير قاصد الى المسافة كالفرع الثالث، و لكن بعد حصول المكاراة مرة و إطلاق المكاري على الشخص، فيقال: إن في هذا السفر الّذي يسافر الشخص في عمله، و يكون السفر واجدا لشرائط القصر لو لا عنوان المكاراة، فهو المكاري و قد سافر في عمله و عمله السفر، فلا وجه لوجوب القصر عليه في هذا السفر، لأنّ في هذا السفر لو لم يكن عنوان المكاراة كان الواجب عليه القصر، و لا نحتاج في وجوب الإتمام و عدم وجوب القصر على المكاري الّا صدق المكاري عليه، و كون سفره واجدا لشرائط القصر لو لا المكاراة، و في ما أنشأ من هذا السفر الجديد يكون كذلك، فيجب عليه الإتمام، فهذا الوجه لا يكفي لاعتبار حصول المكاراة في السفر الواجد لشرائط القصر لو لا المكاراة.

و لكن يمكن أن يقال في توجيه هذا الاحتمال: بأن الظاهر من رواية زرارة و هو عدم القصر على الطوائف الأربعة في سفر كانوا أو حضر، معناه وجوب الإتمام على من يجب عليه القصر

لو لا هذه العناوين، لأنّ المستفاد من الرواية هو عدم القصر عليهم في السفر الشرعي، ففي السفر الشرعي- و هو السفر الّذي يجب القصر

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 226

فيه في حد ذاته- اعتبر عدم كون هذا السفر سفر المكاراة و اخواتها، فلازم ذلك وجوب الإتمام عليهم في السفر الّذي لو لم تكن هذه العناوين لكان الواجب على المسافر القصر، ثمّ بعد ذلك علل عدم وجوب القصر عليهم بكونه عملهم، و المراد من مرجع الضمير في قوله «لكونه عملهم» هو السفر المذكور في صدر الرواية، فاذا كان مرجع الضمير السفر المذكور في الصدر، و المراد منه كما قلنا هو السفر الشرعي، فيكون معنى العلة عدم وجوب القصر عليهم لكون السفر الشرعي عملهم، فيكون الحاصل من الرواية انّه إذا كان المكاري عمله السفر الشرعي، فليس عليه القصر بعد حصول هذا العنوان.

فيستفاد ممّا قلنا أن المكاراة إن حصلت في السفر الشرعي و كان عمل الشخص، فيجب عليه الإتمام في سفر كان أو حضر، فاذا حصلت المكاراة في غير السفر الشرعي، و كان عمله غير السفر الشرعي مثل موارد الفروع الثلاثة فلا يجب عليه الإتمام، لعدم كون مكاراته و عملية السفر في الأسفار الشرعية الموجبة للقصر، و في هذا السفر الّذي انشأ منه و إن كان سفرا شرعيا و لكن لم يصر بعد معنونا بعنوان المكاري الواجب عليه الإتمام، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه الاحتمال الأوّل.

[وجه الاحتمال الثانى كون المستفاد من الرواية صرف المكاراة موجب للاتمام]

و أمّا ما يمكن أن يقال وجها للاحتمال الثاني، و هو عدم اعتبار حصول عنوان المكاراة للمكاري في خصوص الاسفار الشرعية الّتي لو لا عنوان المكاراة كان الواجب عليه القصر، بل يكفي صرف حصول عنوان المكاراة على أي وجه

حصل.

فهو أن يقال: بأن المستفاد من الرواية ليس الا وجوب الإتمام على المكاري في سفر كان أو حضر، و على فرض كونه أراد من السفر المذكور في الرواية السفر الشرعي، يكون المراد هو عدم وجوب القصر على المكاري في سفر لو لم يكن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 227

عنوان المكاراة كان القصر عليه واجبا، لأنّ السفر عملهم، فيعتبر بمقتضى التعليل كون السفر عملهم، و أمّا لزوم صيرورة السفر عملهم و حصول العملية في أسفار لو لم يكن عمل المكاراة لكان القصر عليهم واجبا، و كون تعنونهم بهذا العنوان في خصوص هذا النحو من الاسفار، فلا دلالة في الرواية على ذلك.

و كون مرجع الضمير في قوله «لانه عملهم» السفر الّذي يجب فيه القصر لو لا المكاراة حتى يصير موجبا لأنّ يكون حصول العملية اعني عمل المكاراة، في خصوص هذا القسم من السفر، لا وجه له، لأنّ الضمير راجع الى لفظ السفر المذكور في صدر الرواية، و لو فرض معناه أن يكون السفر الموجب للقصر مع قطع النظر عن المكارة اما لا يلزم أن يكون مرجع الضمير في قوله «لانه» هو السفر بتمام خصوصياته، بل يكون المرجع نفس السفر، و هو أعم من السفر الموجب للقصر و غيره، ففي الفروع الثلاثة يجب الإتمام على المكاري إذا سافر للمكاراة في سفر لم يكن معصية و يكون في ازيد من المسافة و يكون مع القصد.

إذا عرفت هذين الاحتمالين و ما يمكن أن يقال وجها لهما، فما هو الحق في المقام؟ و ما ينبغى أن يقال؟ فهل نأخذ بالاحتمال الأوّل أو بالاحتمال الثاني؟

ثمّ انّه يقع الكلام في جهة اخرى، و هي أن المكاري إذا أقام في بلده أو بلد آخر

عشرة أيّام، فهل يجب عليه القصر إذا أنشأ سفرا جديدا بعد هذه الإقامة أم لا؟

[ذكر الاقوال فى المسألة]
اشارة

أمّا ما نقل من الفقهاء رضوان اللّه عليهم:

فالمنقول من ابن ابي عقيل هو انّه لم يجعل المكاري و غيره من جملة مستثنيات حكم وجوب القصر في السفر أصلا.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 228

و أمّا غيره فبعضهم قال: بأن المكاري إذا أقام في بلده عشرة أيّام يجب عليه القصر إذا أنشأ سفرا بعد ذلك، بل ادعى بعض الاجماع عليه، و ألحق بعضهم غير بلد المكاري ببلده إذا أقام في غير بلده عشرة أيّام، غاية الأمر اعتبر بعضهم في غير بلده الاقامة مع النية، بمعنى: انّه إذا اقام المكاري في غير بلده عشرة أيّام مع نية الإقامة، فيجب عليه القصر في السفر الجديد الّذي ينشأ بعد الاقامة، و بعضهم لا يعتبر النية، و بعضهم ألحق بعشرة أيّام الاقامة ثلاثين يوما مترددا من انقطاع حكم المكاراة أعني: وجوب الإتمام، و انه يجب القصر إذا سافر بعد ذلك، و بعضهم قالوا بإلحاق العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما باقامة العشرة في بلده.

إذا عرفت هذه الاقوال فنقول:

إنّه روى «1» الشّيخ باسناده عن سعد عن ابراهيم بن هاشم عن ابن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلا خمسة أيّام، أو أقل قصر في سفره بالنهار، و أتم صلاة الليل، و عليه صيام شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الّذي يذهب إليه عشرة أيّام او اكثر قصر في سفره و أفطر».

و ظاهر المراد من هذه الرواية- بعد كون المراد من كونه (في منزله) أعني: في بلده و

وطنه، و كون الظاهر من (او أقل) هو الأقل من خمسة أعني: أربعة أو ثلاثة أو يومين أو يوما، و ما قاله بحر العلوم رحمه اللّه: من كون المراد (من أقل) هو الأقل من العشرة حتى كان المراد انّه إذا لم يستقر في منزله خمسة، أو أقل من عشرة يعنى ستة

______________________________

(1) الرواية 6 من الباب 12 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 229

أيّام أو سبعة أو ثمانية أو تسعة، خلاف الظاهر- هو أن المكاري إن لم يستقر في منزله و وطنه إلا خمسة أيّام، أو أقل من خمسة أيّام، قصر في سفره بالنهار، و اتم بالليل، و عليه صوم شهر رمضان، و ان كان له مقام في البلد الّذي يذهب إليه عشرة أيّام و اكثر، قصر في سفره و أفطر، و الظاهر من قوله «البلد الّذي يذهب إليه» هو غير بلده.

فان كنا نحن و ظاهر الرواية، يكون المستفاد منها حكمين:

الحكم الأول: أنّه إذا لم يستقر المكاري في بلده خمسة أيّام أو أقلّ وجب عليه في سفره القصر في الصّلاة النهارية، و إتمام الصّلاة الليلية، يعني: العشاء، و وجوب الصوم عليه، و هذا ممّا لم يقل به احد أعني: لا قائل بالتفصيل بين الصّلاة النهارية فيقول بوجوب القصر فيها و بين الصّلاة الليلية فيقول بوجوب الإتمام فيها، و لا قائل بوجوب الصوم إذا لم يستقر المكاري في منزله إلّا خمسة أيّام أو أقل منها بهذا التفصيل، أعني: لم يكن قائلا بأنّ المكاري إذا أقام في منزله يوما أو يومين الى خمسة له هذا الحكم مع هذا التفصيل.

الحكم الثاني: أنّه إذا كان للمكاري مقام في غير بلده عشرة أيّام أو أكثر وجب

عليه القصر و الإفطار في سفره، و الظاهر من عبارة الرواية وجوب القصر و الإفطار عليه في السفر الّذي يذهب فيه الى البلد الّذي يذهب إليه، فتكون إقامة عشرة أيّام من قبيل الشرط المتأخّر لوجوب القصر و الإفطار عليه، لأنّ الظاهر وجوب القصر و الإفطار عليه في السفر الّذي يذهب فيه الى البلد الّذي يذهب إليه.

و يمكن حمل وجوب القصر و الافطار على ما بعد إقامة عشرة أيّام، فيكون المعنى انّه إذا أقام في البلد الّذي يذهب إليه فيجب عليه في السفر الّذي ينشأ بعد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 230

الإقامة القصر و الافطار عليه، و لكن هذا الحمل خلاف الظاهر، و هذا حاصل ما يستفاد من هذه الرواية في حد ذاتها.

و روى ابن بابويه بسنده «1» عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيّام أو أقل قصّر في سفره بالنهار، و أتمّ الصّلاة الليل، و عليه صوم شهر رمضان، و إن كان له مقام في البلد الّذي يذهب إليه عشرة أيّام أو أكثر و ينصرف الى منزله و يكون له مقام عشرة أيّام أو اكثر قصر في سفره و افطر». «2»

و هذه الرواية زادت في اشتراط وجوب القصر و الافطار على المكاري شرط آخر، و هو أن يكون له إقامة عشرة أيّام مضافا الى اقامة عشرة أيّام في البلد الّذي يذهب إليه فحاصله اعتبار اقامتين.

[نقل كلام بحر العلوم ره]

الّا أن يقال، كما قال بحر العلوم رحمه اللّه: بأن واو فى «و ينصرف الى منزله» كان «أو» فيكون المراد انّه اذا أقام عشرة أيّام في البلد الّذي يذهب إليه أو في بلده، يجب عليه القصر و

الافطار، و لكن هذا خلاف ظاهر المنقول من الرواية.

و اشكال كون حكم الصدر ممّا لم يقل به أحد و اشكال دخل اقامه العشرة في وجوب القصر و الافطار بنحو الشرط المتاخر يجرى في هذه الرواية أيضا.

مضافا الى أن المستفاد من هذه الرواية، بعد اعتبار الاقامتين في وجوب

______________________________

(1) سند الصّدوق ابن بابويه قدس سره الى عبد اللّه بن سنان، على ما ذكر في مشيخته، عن ابيه عن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن أيوب بن نوح الكوفي عن ابن ابي عمير البغدادي عن عبد اللّه بن سنان.

(2) الرواية 5 من الباب 12 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 231

القصر، هو اعتبار الإقامة في وجوب القصر بنحو الشرط المتقدم بالنسبة الى إقامة العشرة في البلد الّذي يذهب إليه، و اعتبارها بنحو الشرط المتأخر بالنسبة الى اقامة الّتي تحصل في بلده بعد سفره، لأنّ الظاهر من الرواية وجوب القصر بين الاقامتين لا بعد هما. «1»

و رواه الشّيخ في موضع آخر «2» من كتاب التهذيب باسناده عن محمد بن احمد بن يحيى عن ابراهيم بن هاشم عن اسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله قال: سألته عن حد المكاري الّذي يصوم و يتم، قال: أيّما مكار أقام في منزله، أو في البلد الّذي يدخله أقلّ من مقام عشرة أيّام وجب عليه الصيام و التمام ابدا، و إن كان مقامه في منزله أو في البلد الّذي يدخله اكثر من عشرة أيّام فعليه التقصير و الافطار.

و المستفاد من هذه الرواية هو أن السائل كان سؤاله راجعا الى أصل فهم حدّ المكارى الّذي يجب عليه في السفر اتمام الصّلاة و اتيان الصوم، فاجاب

عنه، و كان حاصل جوابه هو أن كل مكار اقام في منزله أو في بلد غير بلده اقل من عشرة أيّام فيجب عليه الصيام و اتمام الصّلاة ابدا، و إن كان مقامه في منزله أو في البلد الآخر الذي يدخله اكثر من عشرة أيّام يجب عليه التقصير و الافطار.

______________________________

(1) اقول: و لكن الظاهر من الشرط و الجزاء إذا كان الجزاء مذكورا بعد الشرط و لم يصرح بتقدمه وجودا على الشرط، هو تاخر الجزاء بحسب الوجود عن الشرط، و وجوب ايجاده بعد حصول الشرط كما يقتضي طبع الاولى في كل شرط و جزاء، و المقام كذلك، لانه قال بعد ذكر الشرط و اعتباره، بوجوب القصر و الافطار كما يرى من ظاهر الرواية، فتأمل. (المقرّر)

(2) الرواية 1 من الباب 12 من ابواب صلاة المسافر من الوسائل.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 232

فهذه الرواية سالمة عما كان مورد الإشكال في الروايتين الاوليتين، و ظاهر هذه الرواية بل صريحها عدم الفرق بين إقامة العشرة في بلده و بين غير بلده و كفاية إقامة واحدة، و عدم جوب القصر إذا لم تكن الإقامة ازيد من العشرة.

و إن قيل: إن الفقرة الاولى من الرواية تدلّ على وجوب الإتمام في الاقل من العشرة، و الفقرة الثانية تدلّ على وجوب القصر في صورة إقامة ازيد من العشرة، فحكم نفس العشرة غير مذكور في الرواية، لأنّ الرواية تعرضت لاقل منها و لأزيد منها.

نقول: بأنّ عدم التعرض لنفس العشرة، و بيان الاقل منها و الاكثر منها، لعله كان من باب ندرة اتفاق كون المقام في نفس العشرة لا انقص منها و لا ازيد منها، بل غالبا يكون المقام إمّا الأقل منها أو الأكثر، فتعرض لحكم الغالب،

و يستفاد حكم نفس العشرة أيضا، لأنّ بعد الحكم بكون المقام في الاقل من العشرة موجب للاتمام، و كانت الفقرة الثانية في الحقيقة مفهوم الفقرة الاولى، فيكون المعنى: انّه يجب على المكاري القصر إذا أقام في بلده أو غير بلده عشرة أيّام و أكثر.

[ادعى بحر العلوم كون الروايات الثلاثة رواية واحدة]

ثمّ إنّه إذا عرفت حال هذه الروايات الثلاثة، و مقدار دلالتها، و الكلام الراجع إليها، فنقول: إن بحر العلوم رحمه اللّه ادعى القطع بكونها رواية واحدة.

و ما يخطر بالنظر البدوي قبل التأمل، و إن كان هو الظن بكونها رواية واحدة و أن عبد اللّه بن سنان راوي الرواية، سمعها عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، غاية الأمر الراوي عنه تارة كان يونس بن عبد الرحمن، و تارة يكون ابن ابي عمير لانّهما سمعا الرواية عن عبد اللّه بن سنان، و الرواية الثالثة الّتي يكون في سندها يونس عن بعض رجاله و لم يذكر المعصوم الّذي يروي الرواية عنه، يكون المراد من بعض رجاله أيضا

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 233

عبد اللّه بن سنان، و المعصوم المضمر فيها يكون أبا عبد اللّه عليه السّلام خصوصا مع كون جل روايات يونس بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن سنان.

و لكن بعد ما نرى من الاختلاف بين الرواية الثالثة و بين الاولى و الثانية لاشتمالهما على حكم غير مذكور في الرواية الثالثة، و هو وجوب القصر في خصوص الصّلاة النهارية و الإتمام في الصّلاة الليلية يعنى: العشاء، و وجوب الصوم على من أقام في بلده خمسة أيّام و أقل من ذلك، و الحال أن مقتضى الرواية الثالثة وجوب الاتمام مطلقا، و وجوب الصوم على مطلق المكاري الّذي أقام في بلده أقل من عشرة أيّام،

فمع هذا الاختلاف فالالتزام بكون هذه الروايات رواية واحدة بعيد جدا.

ثمّ بعد ذلك نقول: بأن في المقام يكون كلاما في الروايات على تقدير كونها رواية واحدة، و كلاما على تقدير كونها روايات ثلاثة، نذكر بعد ذكر دلالتها.

[بيان المستفاد من الروايات]

و أمّا دلالتها فقد عرفت بطريق الاختصار ان الرواية الاولى تدلّ على وجوب القصر في الصّلاة النهارية، و الإتمام في الليلية، و وجوب الصوم إذا كانت إقامة المكاري في بلده خمسة أيّام أو أقل، و هذا ممّا لا قائل به بين الفقهاء بهذا النحو، اعنى: بالتفصيل بين صلاة النهار و بين صلاة الليل، و الصوم في خمسة أيّام و اقل اعني: في أربعة أيّام أو ثلاثة أيّام أو يومين أو يوم واحد، و يدلّ ذيلها على وجوب القصر على المكاري في السفر و الافطار اذا أقام في البلد الّذي يذهب إليه عشرة أيّام أو اكثر، مع ما قلنا من أن الصدر بيّن حكم المنزل و الذيل راجع الى حكم غير بلده، و ما قلنا من أن سياق العبارة يقتضي كون إقامة عشرة أيّام شرطا متأخرا لوجوب القصر و الافطار.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 234

و رواية الثانية صدرها يكون مثل صدر الرواية الاولى و يستفاد منه ما يستفاد منه، و ذيلها أيضا مثل ذيلها غاية الأمر اعتبر في ذيلها الاقامتين في وجوب القصر و الافطار لا إقامة واحدة.

إلّا أن يقال: بكون الرواية في مقام بيان حكم المكاري الّذي كان دأبه في المكاراة على نحو يقيم عشرة أيّام في بلده و يسافر، و يقيم في البلد الّذي يسافر إليه عشرة أيّام ثمّ يرجع الى وطنه و هكذا، فتكون الرواية من قوله «و ان كان له مقام في البلد الّذي يذهب

إليه عشرة أيّام أو اكثر و ينصرف الى منزله و يكون له مقام عشرة أيّام أو اكثر قصر في سفره و افطر» بيان لهذا الحكم.

فيكون المراد من هذه العبارة و إن كان للمكاري مقام في البلد الّذي يذهب إليه عشرة أيّام أو اكثر و ينصرف الى منزله، و يكون له مقام عشرة أيّام أو اكثر اعني: يكون وضع مكاراته بالاقامة عشرة أيّام او اكثر في بلده و البلد الّذي يذهب إليه، فيجب عليه القصر و الافطار، فعلى هذا تكون هذه الرواية معترضة لهذا الحكم، لا أن تكون في مقام بيان وجوب القصر و الافطار على المكاري إذا اتفقت له اقامتان، فلا يرد على هذه الرواية اشكال باعتبار الاقامتين حتى يقال لا قائل باعتبار الاقامتين في وجوب القصر و الافطار، مضافا الى انّه على تقدير دلالتها على اعتبار الاقامتين فهي معارضة مع الروايتين الآخرتين على تقدير عدم كون هذه الروايات الثلاثة رواية واحدة.

و أمّا الرواية الثالثة: فهي سليمة من الإشكال الوارد على صدر الرواية الاولى و الثانية لعدم وجود ما في صدر الروايتين من التفصيل فيها، و عدم كون صدرها متعرضا لبلده و ذيلها للبلد الّذي يذهب إليه، و لم يكن فيها الإشكال في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 235

الأزيد من خمسة أيّام الى عشرة أيّام، و أن ما بينها داخل في حكم الخمسة و أقل، أو في العشرة و اكثر، بل هذه الرواية تدلّ على أن الإقامة في البلد أو في البلد الّذي يذهب إليه إن كان أقل من عشرة يجب الإتمام، و إن كانت الإقامة في بلده أو في غير بلده اكثر من عشرة يجب القصر و الافطار.

[في ذكر الاحتمالان في هذه الرواية]

و يحتمل في هذه الرواية احتمالان:

الاحتمال

الاوّل: أن يقال، كما قلنا في الرواية الثانية، من احتمال كون الرواية متعرضة لحكم أصل المكاري الّذي يجب عليه الإتمام، لا باعتبار اسفاره بل باعتبار أصل نحو مكاراته، و أن السؤال راجع الى أن المكاري الّذي يكون موضوع حكم وجوب الاتمام في السفر هو أي مكار من اقسام المكاري، و كان جواب الامام عليه السّلام راجعا الى أن كل مكار يكون في مكاراته دائما على أن يتوقف في بلده أو البلد الّذي يذهب إليه أقل من عشرة أيّام فهو موضوع لحكم الإتمام في السفر، و اى مكار يكون دابه في هذه الحرفة الإقامة عشرة أيّام او اكثر في بلده، أو البلد الّذي يذهب إليه، فهو خارج عن موضوع حكم المكاري، و يكون الواجب عليه القصر و الافطار في السفر، فعلى هذا الاحتمال يكون السؤال و الجواب راجعا الى كل مكار يكون بنائه دائما على الإقامة اكثر من عشرة أيّام أو أقل، فالاول يجب عليه القصر، و الثاني يجب عليه الإتمام.

و هذا الاحتمال و إن كان مؤيّدا بقوله في الرواية «ابدا» بعد قوله «وجب عليه الصيام و التمام» لأنّ الظاهر هو وجوب الاتمام و الصيام عليه ابدا، و يجب الصيام و التمام على المكارى ابدا إذا كان دابه هو الإقامة مطلقا أقل من عشرة أيّام في منزله أو في البلد الّذي يذهب إليه، فمن هنا نكتشف كون السؤال و الجواب راجعا الى من

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 236

يكون وضع مكاراته على الاقامة أقل من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله، فيجب عليه الإتمام و الصيام، و من يكون وضع مكاراته على الاقامة اكثر من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله، فيجب عليه القصر

و الافطار، و الحاصل كون «ابدا» قرينة على كون السؤال و الجواب عن حد المكاري، و الجواب عمن يكون وضعه دائما على النحوين المذكورين في الرواية.

و لكن يبعّد هذا الاحتمال لسان الرواية بمقتضى التعبير فيها «ايما مكار أقام في منزله أو في البلد الّذي يدخله أقل من عشر أيام وجب عليه الصيام و التمام ابدا» الدال على ان المكاري إذا اقام في منزله او في البلد الّذي يدخله أقل من عشرة أيّام وجب عليه الصيام و التمام ابدا، فيجب عليه هذا الاحتمال على من يكون بنائه الاقامة دائما في بلده أو البلد الّذي يدخله أقل من عشرة أيّام الصيام و الإتمام، و يقتضي هذا الحكم بمنطوقه و مفهومه انّه إذا كان بناء المكاري على الإقامة أقل من العشرة في بلده يجب عليه الإتمام و الصيام و إن كان أقامته في البلد الّذي يدخله اكثر من العشرة، و كذلك من يقيم في البلد الّذي يدخله اقل من العشرة يجب عليه الإتمام و الصيام و إن كان مقامه في بلده اكثر من عشرة أيّام.

و هذا الحكم المستفاد من المنطوق و المفهوم من هذه الفقرة مناف و معارض مع الفقرة الاخرى لأنّ ظاهر لفظ (أو) الواقع في الفقرة الاولى في قوله «في منزله أو في البلد الّذي يدخله» هو أن صرف الاقامة في احد من بلده و البلد الّذي يدخله أقل من عشرة أيّام موجب للاتمام و الصيام و لو كان أقامته في الآخر اكثر من العشرة، و هذا مناف مع ما يستفاد من الفقرة الاخرى من الرواية من أن إقامة المكاري اكثر من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله موجب للقصر و الافطار و

تبيان الصلاة،

ج 1، ص: 237

إن كانت إقامته في الآخر أقل من عشرة أيّام.

إلّا أن يقال بكون (أو) الوارد في الرواية بمعنى «واو» و هو خلاف الظاهر، فما قلنا من الإشكال مبعّد لكون مدلول الرواية هو الاحتمال الأوّل.

و أمّا الاحتمال الثاني: في الرواية فهو أن يقال: بأن السؤال في الرواية راجع الى فهم حد المكاري باعتبار كل سفر و سفر صدر منه، و بعبارة اخرى راجع الى السؤال عن المكاري، لا من حيث أصل مكاراته و وضعه في هذه الحرفة كما قلنا في الاحتمال الأول، بل من حيث اسفار المكاري و وضع عمله أعني: ما يعتبر في عمله من حيث اسفاره الصادرة منه بحيث يكون السؤال من حيث كل سفر و سفر صدر منه لا بما هو مرتبط بسائر اسفاره، بل باعتباره مستقلا.

و بعبارة اخرى يكون السؤال و الجواب راجعا الى أن كل سفر يصدر من المكاري إذا كان صدوره و انشائه باى نحو، يجب عليه الإتمام، و إذا انشأ بأى نحو يجب عليه فيه القصر، فقال عليه السّلام في مقام الجواب عن هذا الحيث بما يرجع كلامه الى أن المكاري إذا أقام في منزله أو أقام في البلد الّذي يدخله أقل من عشرة أيّام وجب عليه الإتمام في السفر بمعنى أن كل سفر من المكاري يكون منشأ سفره و صدوره منه بعد مقامه أقل من عشرة أيام سواء كان من منزله أو من البلد الّذي يدخله، فيجب عليه الإتمام في هذا السفر، و إذا كان منشأ سفره و صدوره من بعد إقامة عشرة أيّام سواء حصلت هذه الاقامة في بلده أو في البلد الّذي يدخله، فيجب عليه في هذا السفر الناشئ منه بعد إقامة العشرة القصر

و الافطار.

فالسؤال و الجواب راجع الى انّه بعد كون المكاري في كل سير محتاجا الى مكث و اقامة لا بدّ منها إمّا في بلده أو البلد الّذي يدخله، لاجل قضاء حوائجه

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 238

الراجعة الى المكاراة من أخذ الأمتعة الّتي أراد أن يسوقها و من تحويل الأمتعة جاء بها، فإن كان هذا المكث أقل من عشرة فيجب عليه الإتمام و إن كان أكثر من عشرة فيجب عليه القصر، فعلى هذا يكون التعبير بلفظ «أو» غير مناف مع هذا البيان و لم يكن تعارض بين الفقرة الاولى و الثانية.

لأنّه على هذا الاحتمال يكون المعنى أن المكاري إذا انشأ سفرا بعد إقامته في بلده أو في البلد الّذي يدخله أقل من عشرة أيّام، فيجب عليه الإتمام، و هذا غير مناف مع الفقرة الثانية الدالة على أن المكاري إذا انشأ سفرا بعد إقامة عشرة أيّام في بلده او البلد الّذي يدخله يجب عليه التقصير في هذا السفر، فيكون المعنى أن سفره إذا كان بعد اقامة اكثر من العشرة ففي هذا السفر يجب عليه القصر، و إذا كان بعد اقامة أقل من العشرة فيجب عليه الإتمام، فالصدر غير مناف مع الذيل، و يكون لفظه او أيضا غير مناف لهذا الاحتمال كما قلنا. «1»

______________________________

(1) أقول: و لا يخفى عليك انّه مع ما قلنا من الاحتمال الأوّل في الرواية، يمكن دفع الإشكال الّذي استشكله سيدنا الأستاذ- مدّ ظلّه- على هذه الاحتمال من أجل التعبير بلفظ «أو» بأن المراد من الفقرة الاولى من الرواية على هذا الاحتمال، هو أن كل مكار يكون وضع مكاراته بأن يقيم في بلده أو في البلد الّذي يدخله أقل من العشرة و وضع مكاراته

هكذا على الدوام، فيجب عليه الإتمام و الصيام، و المراد من الفقرة الثانية هو أن كل مكار يكون وضعه في المكاراة على الدوام باقامة اكثر من العشرة في بلده او البلد الّذي يدخله، فيجب عليه القصر و الافطار فلا ينافي الصدر مع الذيل اعني: الفقرة الاولى مع الثانية بمناسبة التعبير بلفظ (أو) كما افاده مدّ ظلّه

لأنه بعد ضم الذيل الى الصدر نفهم أن المراد من الصدر هو غير مورد الذيل و المراد من ذيل هو غير مورد الصدر، فتكون النتيجة أن المكاري إذا أقام في بلده أو البلد الّذي يدخله أقل من-

عشرة أيّام وجب عليه الإتمام و الصيام إلّا إذا كانت إقامته في احدهما اكثر من العشرة مثلا، إذا أقام في بلده أقل من العشرة و لكن أقام في البلد الّذي يدخله اكثر من عشرة أيّام أو العكس، فيجب عليه القصر بعد ضم الذيل بالصدر، و في ما أقام في واحد من بلده أو البلد الّذي يدخله أقل من العشرة و لم يقم في الآخر منهما اكثر من العشرة يجب عليه الإتمام و الصيام.

فليس على هذا اشكال في الرواية لاجل التعبير بلفظ (أو) و يؤيد هذا الاحتمال كما افاده مدّ ظلّه التعبير بقوله (أبدا) لأنّ الإتمام يجب ابدا على من يكون وضعه دائما على الإقامة في بلده أو البلد الّذي يدخله أقل من العشرة حتى كان الواجب عليه الإتمام و الصيام أبدا، و إلا مع الاحتمال الثاني فلا يجب عليه الإتمام أبدا، لأنه إذا أقام اكثر من العشرة بعد ذلك في بلده او في البلد الّذي يدخله فيجب عليه القصر لا الإتمام.

فالتعبير بلفظ (أو) مناسب مع الاحتمال الأول، و لكن لا فرق في النتيجة بين

الاحتمالين، لأنه على كل من الاحتمالين تكون الإقامة الزائدة من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله موجبا لوجوب القصر و الافطار في السفر الّذي ينشأه المكاري بعد ذلك، أمّا على الاحتمال الثاني فواضح، و أمّا على الاحتمال الأوّل فلأنه و إن كانت الرواية في مقام بيان حكم من يكون وضعه في المكاراة على الإقامة اكثر من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله، و لكن نفهم أن ما هي العلة لوجوب القصر هو الاقامة اكثر من العشرة، فكلما حصلت الإقامة اكثر من العشرة يجب القصر و الافطار في السفر بعد تلك الإقامة على المكاري.

اللهم إلّا أن يقال: بأن الرواية على الاحتمال الأوّل متعرضة لكل مكار يكون وضع مكاراته دائما كذلك، فلا تعرض للمكاري الّذي يتفق له الإقامة اكثر من عشرة اتفاقا مرة في بلده أو البلد الذي يدخله.

و يمكن أن يقال: بأنّه بعد كون الاقامة لو كانت اكثر من العشرة مانعا عن وجوب الاتمام في السفر على المكاري، أو عدمها شرطا في حكم الإتمام الثابت للمكاري، لأنّ ما يكون علّة لوجوب القصر هو الإقامة إذا كانت اكثر من العشرة، فكلما حصلت العلة يجب القصر و الافطار، فمن يتفق من افراد المكاري له الاقامة اكثر من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله، يجب عليه-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 240

إذا عرفت ما بينا لك من كون هذه الرواية دالة على أن المكارى إذا أقام في بلده أو البلد الّذي يدخله اكثر من عشرة أيّام، يجب عليه القصر في السفر الصادر منه بعد ذلك، و إذا أقام أقل من العشرة يجب عليه الصيام و الاتمام.

[القدر المتيقن فى مقام العمل هو الرواية الثالثة]

فان كانت الروايات رواية واحدة، فالقدر المتيقن ممّا يمكن الاخذ به

هو مفاد هذه الرواية لعدم الاشكال في متنها، بخلاف الرواية الاولى و الثانية، و لعدم اشتمالها على حكم غير المفتى به عند الفقهاء رضوان اللّه عليهم.

و أمّا إن قلنا بكون كل منها رواية مستقلة، كما لا يبعد بالنظر، لبعد كون الرواية الثالثة متحدة معهما مع الاختلاف الفاحش بينهما من حيث المتن، و لا يبعد أن يكون بعض رجال يونس الّذي يروي عنه الرواية الثالثة غير عبد اللّه بن سنان، فعلى هذا نقول يقع التعارض بين الرواية الثالثة و بينهما، لأنّ منطوق الثالثة و مفهومها يدلّ على أن في صوره اقامة الاقل من العشرة يجب الإتمام مطلقا في النهارية، و في الصّلاة الليلية و يجب الصيام، فإن ذلك مفاد منطوق صدرها و مفاد مفهوم ذيلها، و أمّا الاولى و الثانية فهما تدلّان على أن في صورة إقامة الخمسة أو أقل يجب على المكاري القصر في الصّلاة النهارية، و الإتمام في الصّلاة الليلية، و يجب عليه الصيام.

فيقع التعارض بينها في الخمسة و أقل منها لأنه على مقتضى الرواية الثالثة يجب الإتمام و الصيام، و على الاولى و الثانية يجب القصر في الصّلاة النهارية فقط، و يجب الإتمام في الصّلاة الليلية و يجب الصيام «و الجمع الدلالي و إن امكن في حدّ

______________________________

- القصر و الافطار، و عليك بالتأمل في ما قلت لعدم جزمي بذلك، بل ابداء احتمال في هذا الباب. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 241

ذاته بينهما بان يخصص الرواية الثالثة في خصوص الخمسة و أقل بالروايتين، إلّا انّه لا يمكن الالتزام بهذا الجمع لعدم عامل به» فبعد عدم امكان الجمع و وقوع التعارض إمّا أن يقال: بترجيح الثالثة لانها و إن كانت مرسلة و مضمرة، و

لكن بعد عمل الاصحاب بها يكون ضعفها منجبرا بعملهم، مضافا الى انّه يمكن أن يدعى عدم كونها مضمرة، بل بعد ما يكون بناء الروات في كتبهم على ذكر المعصوم عليه السّلام الذي تروى عنه روايات في أول كتبهم، ثمّ بعد ذلك يقولون و يعبرون في صدر كل رواية (و سألته الى آخر) ما يروون عنه عليه السّلام من الروايات، فيمكن أن يكون بعض رجال يونس أيضا ممّن له كتاب كان وضعه كذلك، ثمّ بعد ذلك صار تقطيع الروايات من بعض من كان متأخرا، أو عدم بلوغ كتاب يونس إلينا سببا لأنّ يتوهم بكون الرواية مضمرة، و على أي حال لا يضر ارسالها و اضمارها بعد عمل الاصحاب بها.

ففي مقام التعارض لا بدّ من الاخذ بها مضافا الى ما يوهن الرواية الثانية و الاولى من اشتمالهما على ما لم يفت به أحد من الفقهاء عليه السّلام، فيجب على هذا على المكاري الإتمام إذا أقام أقل من العشرة في بلده او البلد الّذي يدخله، و إن أبيت عن ترجيح الثالثة في مقام التعارض عليهما نقول: يقع التعارض بينها و تسقط الثلاثة، فلا بدّ من الرجوع الى العام الفوقاني، و هو ما يدلّ على وجوب الإتمام على المكاري في السفر خرج منه المكاري الّذي أقام في بلده أو البلد الّذي يدخله العشرة أو اكثر من العشرة، و يبقى الباقي تحت العموم، فيجب الإتمام مطلقا و الصيام على المكاري في السفر الّذي ينشأ منه بعد إقامة الاقل من العشرة، هذا حال أصل المسألة

[ذكر الفرع الاول]
اشارة

ثمّ أن هنا فروعا:

الفرع الأوّل: انّه بعد ما قلنا من وجوب القصر على المكاري الّذي اقام في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 242

بلده، أو بلد

الّذي يدخله عشرة أيام أو اكثر في السفر الّذي يصدر منه بعد هذه الاقامة، فهل يعتبر في وجوب القصر و الإفطار عليه أن تكون إقامته في بلده أو البلد الّذي يدخله مع النية بمعنى انّه إذا أقام عشرة أيّام أو اكثر مع النية يجب في السفر الصادر منه بعد ذلك القصر و الافطار، أو لا يعتبر كون الإقامة مع النية لا في بلده و لا في البلد الّذي يدخله؟

أو نقول بالتفصيل بين الإقامة في بلده و بين الإقامة في البلد الّذي يدخله فنقول بعدم اعتبار النية في الأوّل و اعتبارها في الثاني.

اعلم أن من راجعنا كلماتهم من الفقهاء رضوان اللّه عليهم لم نر من الشّيخ و غيره تعرضا لاقامة المكارى فى غير بلده أصلا الى زمان المحقق رحمه اللّه، بمعنى انّه قبل المحقق و العلّامة رحمه اللّه كل من رأينا من الفقهاء نرى انّه افتى بوجوب القصر على المكارى إذا أقام في بلده عشرة أيّام أو أكثر، و لم يتعرضوا لغير بلده أصلا، و أول من رأينا انّه تعرض للإقامة في غير البلد هو المحقق ره و العلّامة، و ظاهر كلامهما هو اعتبار النية في الإقامة في غير البلد، و عدم اعتبارها في البلد.

ثمّ إنه بعد هما يوجد في الفقهاء من قال: باعتبار النية في البلد و البلد الّذي يدخله المكاري، و من قال بعدم اعتبار النية في كليهما، و من قال بالتفصيل.

فهل نقول: بعدم اعتبار النية في كليهما جمودا على ظاهر الرواية، لأنّ ظاهر الرواية عدم اعتبار النية في كليهما.

أو نقول: باعتبار النية في كليهما، لأنه بعد عدم امكان الالتزام بكفاية صرف إقامة عشرة في غير بلده في موجبيتها لوجوب القصر في السفر الناشئ

منه بعد ذلك، لعدم صيرورته، بصرف الاقامة بلا قصد، خارجا عن كونه مسافرا و عن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 243

كون السفر عمله، فنقول باعتبار النية في الاقامة في البلد أيضا بقرينة السياق، كما ينسب ذلك الى النجيبية، لأنّ ظاهر الرواية كون إقامة العشرة في البلد و في البلد الّذي يدخله بوزان واحد موضوعا لوجوب القصر على المكاري في السفر الّذي ينشأ بعد هذه الاقامة.

أو نقول بالتفصيل بينهما بأن الظاهر هو عدم دخالة النية في الإقامة في البلد، لأن الشخص متى يكون في بلده لم يعد مسافرا و المكاري أيضا كذلك، فهو متى يكون في بلده لم يكن مسافرا و لم يكن السفر عمله، فعلى هذا بمجرد الإقامة عشرة أيّام و لو كان بلا قصد في بلده، فهو خارج عن المكاري الّذي يكون السفر عمله، لأنّ المكاري يجب عليه الإتمام من باب كون السفر عمله، و من يكون في وطنه ليس السفر عمله، فعلى هذا بمجرد الإقامة يجب عليه القصر في السفر الناشئ عنه بعد ذلك سواء كانت إقامته عن قصد أو بلا قصد.

و أمّا في غير بلده فالمكاري متى لم يقصد الإقامة عشرة أيّام فيه فهو مسافر في السفر الّذي يكون السفر عمله، و لذا يجب عليه الإتمام لكونه في السفر الّذي يعدّ عملا له، فكيف يمكن أن يقال انّه متى يكون في هذا البلد بلا قصد الإقامة و إن أقام عشرة أيّام يجب عليه الإتمام لكون السفر عمله بعد، و لكن إذا سافر بعد هذه العشرة يجب عليه القصر لخروجه ممّن يكون السفر عمله بمجرد إقامة العشرة، فعلى هذا لا بدّ و أن يقال: بأن إقامة العشرة في البلد الّذي يدخله إذا كان

مع القصد و النية يجب القصر على المكاري في السفر الناشئ منه بعد ذلك من باب انّه مع القصد يكون هذا البلد مثل وطنه، فيخرج بسبب ذلك عن كونه مكاريا الواجب عليه الإتمام في السفر لكون السفر عمله، فلهذا يقال بالتفصيل بين البلد فلا تعتبر النية و بين غير البلد

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 244

فتعتبر النية.

إذا عرفت ذلك نقول: أمّا الالتزام باعتبار النية و القصد في كليهما فبعيد، مضافا الى كونه خلاف ظاهر الرواية، لأنّ دخالة القصد في ذلك الحكم في ما يكون المكاري في بلده ممّا لا نفهم له وجها، لأنّ المكاري متى يكون في بلده و وطنه عشرة أيّام أو اكثر فلا يعدّ عند العرف كونه في السفر الّذي يكون عمله، بل هو في وطنه و حكم الإتمام بعد ما كان من اجل عملية السفر له، فهو متى يكون في وطنه لا يعد في السفر فيجب عليه بعد تلك الإقامة القصر في السفر، لأنّ هذه الإقامة انسلخته عن عملية السفر، فلا يمكن الالتزام بدخل القصد في الإقامة في البلد.

كما أن الالتزام بعدم دخل القصد في الإقامة في كليهما أيضا بعيد، لأنّ الالتزام بكون نفس إقامة عشرة أيّام في البلد الّذي يدخله و إن كان بلا قصد يوجب القصر في السفر بعدها مشكل لما قلنا من أن المكاري و لو أقام عشرة أيّام بلا قصد فهو مسافر في السفر الّذي عمله و لذا يجب إذا لم يقصد الإقامة الاتمام عليه.

فما يرجح بالنظر من هذه الاحتمالات هو التفصيل بعدم اعتبار القصد في صورة الإقامة في بلده، و اعتبار القصد في صورة الإقامة في غير البلد لموجبيتها للقصر و الافطار لما قلنا وجهه.

[ذكر الاشكال و دفعه]

و إن

قيل: إن ذلك مناف مع السياق الرواية، لأنّ ظاهر الرواية دخالة الإقامة في كل منهما لانهما بوزان واحد، فكيف يمكن التفكيك بينهما.

فنقول: بانا لم نتصرف في ذلك الحيث في الرواية، بل نقول: بأنّه مع كون ظاهر الرواية غير متعرض لاعتبار القصد في كليهما، و لكن مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي لأنّ يكون القصد غير دخيل في بلده و دخيلا في البلد الّذي يدخله.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 245

بيانه أن ما نفهم من كون إقامة العشرة موجبة للقصر على المكاري في السفر الذي ينشأ منه بعد ذلك، ليس لخصوصية في المكاري، بل يكون هذا الحكم من باب كون الإقامة مانعة من تحقق وصف كون السفر عملا للمكاري و أن إقامة العشرة في بلده مانعة عن حصول وصف عملية السفر له، و الشخص متى يكون في بلده و وطنه و مقيما فيه لم يتحقّق له وصف عملية السفر له، و المقام في الوطن مانع من حصول هذا العنوان له بمقتضى الرواية، فمناسبة الحكم و الموضوع تقتضي كون نفس إقامة العشرة في بلده مانعا عن حصول وصف العملية له، لأنّ المقيم يكون في وطنه فهو بنفسه مانع لتحقق وصف العملية سواء قصد الإقامة في العشرة أولا، فلأجل ذلك لا يعتبر في ثبوت حكم وجوب القصر و الافطار للمكاري في السفر الصادر منه بعد إقامة عشرة أيّام في بلده القصد على الإقامة.

و أمّا في غير بلده فبعد كون البلد و وطن المكاري مانعا عن حصول وصف عملية السفر له، فمتى يكون مسافرا لا يخرج عن اتصافه بكون السفر عمله، و لكن إذا قصد إقامة عشرة أيّام أو اكثر في غير بلده، فيصير غير البلد كالبلد، و يمنع حصول إقامة

العشرة مع القصد عن تحقق عنوان كون السفر عمله، فيجب عليه القصر في السفر الناشئ منه بعد ذلك، فمناسبة الحكم و الموضوع في غير البلد تقتضي كون الإقامة مع القصد؛ لأنّ إقامة عشرة أيّام لا تمنع عن تحقق وصف العملية، و اخراج المكاري عن كونه مسافرا في السفر الّذي يكون السفر عمله إلّا إذا كانت مع القصد.

فالحكم بالتفصيل يكون من باب فهم ذلك من مناسبة الحكم و الموضوع، لا من باب التصرف في ظهور الرواية و تقييدها في مورد البلد الّذي يدخله بالقصد، بل مفاد الرواية ليس الا كون الإقامة في بلد المكاري، و البلد الّذي يدخله مانعا عن

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 246

وجوب الإتمام في السفر الناشئ بعدها عن المكاري، و لكن مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي عدم اعتبار القصد في الاقامة في بلده، و اعتبار القصد في البلد الّذي يدخله، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التفصيل.

أو أن يقال: هنا أصلا بعدم كون إقامة العشرة في البلد الّذي يدخله المكاري موجبة للقصر، سواء كانت مع قصد هذه الاقامة أو بلا قصد، لأنّ بعد كون المدرك في المسألة مرسلة يونس أعني: الرواية الثالثة «إمّا من باب ترجيح المرسلة على الرواية الاولى و الثانية في مقام التعارض، و إمّا من باب اضطراب متن الرواية الاولى و الثانية و ما كان فيهما من الاشكال» و قلنا في مقام جبر ضعف سندها بأن عمل الاصحاب جابر لضعفها.

فيقال: إن ما به عمل الاصحاب، كما قلنا، الى ما قبل زمان المحقّق ليس إلّا العمل على بعض الرواية، و هو خصوص إقامة العشرة في بلده، فاوجبوا القصر في السفر الناشئ من المكاري بعد إقامة العشرة في بلده،

فعلى هذا لم يكن عمل من القدماء الى زمان المحقق على طبق الجزء الآخر من الرواية، و هو الاقامة في البلد الذي يدخله، فبعد كون الرواية مرسلة و ضعيفة السند، ففي مقدار ما انجبر منها بعمل الفقهاء يمكن العمل به لكون الرواية بالنسبة الى هذا المقدار منجبرة بعمل الاصحاب، و في غيره فلا، فنتيجة ذلك هو الفرق بين الاقامتين، بأن المكاري إذا أقام عشرة أيّام أو اكثر في بلده فيجب القصر و الافطار عليه في السفر الّذي يصدر منه بعدها، و أمّا إذا أقام في البلد الّذي يدخله فلا دليل على وجوب القصر و الافطار عليه.

فهل نلتزم بذلك؟ أو يقال: بأنّه كيف يمكن الالتزام بانجبار الرواية و صحتها

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 247

في جزء منها و ضعفها في جزئها الآخر.

و على كل حال الحكم بوجوب القصر و الافطار على المكاري في السفر الناشئ منه بعد إقامة العشرة أو اكثر في البلد الّذي يدخله، و خصوصا إذا كانت إقامته بلا قصد، مشكل مع عدم ذكر لها من الشّيخ رحمه اللّه و غيره من الفقهاء رضوان اللّه عليهم الى زمان المحقق و العلّامة رحمه اللّه.

فنقول: في صورة الاقامة في غير بلده و خصوصا إذا كانت الإقامة عشرة أو اكثر بلا قصد العمل بالاحتياط بين القصر و الإتمام، فافهم.

[ذكر الفرع الثاني و الثالث]

الفرع الثاني: بعد ما عرفت من أن المكاري إذا أقام في بلده أو البلد الّذي يدخله على الكلام فيه عشرة أيّام أو اكثر يجب عليه القصر و الافطار، يقع الكلام في أن هذا الحكم هل يكون مخصوصا بالمكاري، كما هو مقتضى الجمود على ظاهر الرواية، لكون مورد الرواية خصوص المكاري، أو لا يكون مختصا بالمكارى، لأنّه بعد عدم

كون خصوصية للمكاري حتى يكون من باب كونه مكاريا موردا لهذا الحكم، و عدم كون المكاراة دخيلة في اثبات هذا الحكم، بل العرف يفهم بأن هذا الحكم لم يثبت له إلّا من باب كون السفر عمله، فكل من يكون السفر عمله يكون هذا الحكم ثابتا له، فظاهر الرواية و إن كان في خصوص المكاري و لكن بمفهوم الموافقة اعنى: تنقيح المناط القطعي، نحكم بأن هذا الحكم ثابت لكل عنوان من العناوين الّتي يكون السفر عمله.

الفرع الثالث: بعد فرض كون إقامة العشرة او أكثر في بلده، أو البلد الّذي يدخله موجبة للقصر و الافطار، فهل يعتبر في هذه الإقامة أن تكون إقامة عشرة أيّام متصلة بمعنى: أن المكاري إذا أقام هذا المقدار متصلا في بلده بحيث لم يتخلل

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 248

بينها فصل بالخروج عن البلد، يجب عليه القصر أو لا يعتبر الاتصال؟

________________________________________

بروجردى، آقا حسين طباطبايى، تبيان الصلاة، 8 جلد، گنج عرفان للطباعة و النشر، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تبيان الصلاة؛ ج 1، ص: 248

أعلم أن ما يظهر من بعض الفقهاء هو عدم اعتبار ذلك.

فبعضهم قال: بأن المكاري إذا أقام في بلده و توقف يوما، ثمّ خرج الى مسافة أقل من مسافة القصر فتوقف يوما فيها، ثمّ رجع الى البلد فهذا اليوم المتخلل غير مضر باقامته في البلد، و يحسب هذا اليوم جزء من العشرة.

و بعضهم قال: بأن هذا اليوم الّذي خرج فيه الى المسافة الّتي تكون أقل من المسافة الشرعية لم يحسب من العشرة، و لكن تخلل ذلك اليوم لا يضر بالاقامة في البلد بمعنى: انّه إن أقام في البلد عشرة أيّام و إن تخلل بينها خروج يوم، فلا يضر بصدق

الإقامة.

و الّذي ينبغي أن يقال: هو أن ظاهر الرواية يدلّ على أن إقامة العشرة أو الاكثر في البلد توجب القصر، فكيف يقال بمن أقام في بلده و غير بلده انّه أقام عشرة أيّام في بلده؟ لأنّ الظاهر من إقامة العشرة هو الإقامة المتصلة، فعلى هذا بمجرد خروجه الى مسافة و ان كانت أقل من المسافة الشرعية بين العشرة، خرج عن كونه مقيما في بلده عشرة أيّام، فلا وجه للقولين الاولين أعني: قول من قال بأن الخروج الى أقل من المسافة الشرعية يوما لا يضرّ بصدق الإقامة، بل يحسب هذا اليوم أيضا جزء من العشرة، و قول من قال بعدم حساب ذلك اليوم جزء الإقامة، و لكن لا يضر الخروج يوما بالاقامة عشرة أيّام في البلد الّذي أقام فيه، لما قلنا من أن ظاهر الرواية موجبية اقامة عشرة أيام أو اكثر متصلة في خصوص بلده أو البلد الّذي يدخله للقصر و الافطار، و الا فلا.

و أمّا الخروج الى حد الترخص فهو بعنوان حد الترخص لا ينبغي أن يقع

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 249

مورد الكلام، بل ما يمكن أن يقال: إن الخروج الى بعض توابع البلد في يوم أو بعض يوم مثلا في ضمن العشرة لا يضر بصدق الإقامة إذا كان عند العرف هذا الموضع الذي خرج إليه يحسب من توابع البلد بحيث يصدق عندهم بأنّه مع خروجه الى هذا الموضع مقيم في البلد، و إلا يكون مضرا بالإقامة فافهم.

[ذكر الفرع الرابع]

الفرع الرابع: لا اشكال في أن بعد إقامة المكاري عشرة أيّام أو اكثر في بلده أو البلد الّذي يدخله يجب القصر و الافطار في السفر الأوّل الّذي يصدر منه بعد تلك الإقامة، فهل يجب عليه القصر

بعد ذلك في السفر الثاني و الثالث حتى يصير مجددا معنونا بعنوان كون السفر عمله.

و بعبارة اخرى هل إقامة العشرة تخرج المكاري عن عنوان عملية السفر حتى يكون وجوب الإتمام عليه في السفر بعد الإقامة موقوفا على تجدد هذا العنوان له بعد ذلك، و لازم ذلك هو عدم كفاية سفر الأوّل بعنوان المكاراة لتعنونه بهذا العنوان، بل يلزم سفران أو اسفار ثلاثة حتى يصدق عليه عنوان كون السفر عمله.

أو يجب عليه الإتمام في غير السفر الأول، لأنّ السفر الأوّل هو القدر المتيقّن من الرواية، و أمّا غير السفر الأوّل فشمول الحكم له غير معلوم. «1»

______________________________

(1) أقول: اعلم انّه و إن لم يتعرض سيدنا الأستاد- مد ظله- في هذا المقام لما افاده سابقا و لكن أقول: بأنّه على مبناه من كون ظاهر الرواية هو بيان حد المكاري باعتبار كل سفر من اسفاره بحيث يلاحظ كل سفر من اسفاره مستقلا، و أن السؤال و الجواب في الرواية راجع الى أن المكاري يكون وضعه في اسفاره على نحوين.

فتارة ينشأ السفر بعد إقامة عشرة أيّام أو اكثر، فيجب في هذا السفر القصر و الافطار عليه.

و تارة ينشأ سفره بعد إقامة أقل من العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله، فيجب عليه في-

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 250

و اعلم انّه- مد ظله- تعرض في مجلس البحث في يوم البعد لما قلته: بأن ما ينبغي أن يقال في المقام، مع ما قلنا من كون السؤال و الجواب راجعا الى بيان حد المكاري باعتبار كل سفر من اسفاره، و انّه في كل سفر صدر منه بعد إقامة العشرة في بلده أو البلد الّذي يدخله يجب عليه القصر و الافطار، و في كل

سفر صدر منه بعد إقامة الاقل من العشرة يجب عليه الصيام و اتمام، فنقول في هذا الفرع بأنّه يجب القصر في خصوص السفر الأوّل، لأنّ هذا السفر هو السفر الّذي انشأ المكاري بعد

______________________________

- السفر الصادر منه بعدها الإتمام و الصيام، فعلي هذا نقول في المقام: بأنّه إذا أقام المكاري في بلده أو البلد الّذي يدخله عشرة أيّام أو اكثر فيجب عليه في خصوص السفر الصادر منه بعد ذلك القصر و الافطار لا في اسفاره الأخرى، بل في السفر الثاني إذا كان قبله أقام في بلده أو البلد الذي يدخله اقلا من العشرة يجب عليه بمقتضى صدر الرواية الإتمام، لكون سفره صدر من إقامته أقل من العشرة.

فعلى هذا لم تكن حاجة الى اتعاب النفس بأن القدر المتيقن من ثبوت وجوب القصر بعد إقامة العشرة أو اكثر هو السفر الأول، و فيما بعد ذلك لو شككنا في انّه هل يجب القصر أو الإتمام يقال بوجوب الإتمام تمسكا بالعموم الدال على وجوب الإتمام على المكاري في السفر، بأن يدعى أن هذا الحكم تخصيص لهذا العموم، و القدر المتيقن من التخصيص هو السفر الأوّل.

لأن الأمر إذا بلغ الى هذا المقام فلا يتم المطلب، و لا يمكن الالتزام بوجوب الإتمام في السفر الثاني بهذا الوجه، لأنّ ظاهر الرواية هو الحكومة حيث (قال: سألته عن حد المكاري الّذي يصوم و يتم) و هذا أوضح افراد الحكومة، فعلى هذا بعد ضم دليل الحاكم أعني: هذه الرواية الى المحكوم و هو العموم الدال على وجوب الإتمام على المكاري، فتكون النتيجة هو أن موضوع المكاري الّذي يجب عليه الإتمام من رأس هو المكاري الّذي كانت اقامته في بلده أو البلد الّذي يدخله اقلا

من العشرة، و من كانت إقامته اكثر من العشرة فهو خارج موضوعا عن حكم المكارى الواجب عليه الاتمام، فبعد خروجه موضوعا فدخوله ثانيا محتاج الى انطباق عنوان المكاري الّذي عمله السفر له ثانيا، فقبل ذلك لا يجب عليه الإتمام، و لو فرض الشّك فالمرجع هو العموم الفوقاني و هو وجوب القصر على المسافر، فتأمل. (المقرّر).

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 251

اقامته عشرة أيّام، و أمّا في الاسفار الاخر فكل سفر انشأ بعد الإقامة اقل من العشرة فيجب عليه الإتمام لدلالة الرواية على ذلك.

[ذكر الفرع الخامس]

الفرع الخامس: بعد ما ثبت وجوب الافطار و القصر على المكاري بعد اقامة العشرة أو اكثر في خصوص السفر الأوّل الصادر منه بعدها، فهل يكون هذا الحكم ثابتا في السفر الأوّل مطلقا سواء كان بحسب الزمان هذا السفر قصيرا، مثل أن يسافر للمكاراة من بلده الى بلد كانت مدته يوما أو يومين، أو كان سفرا متعارفا بحسب المعمول في المكارة، و سواء كان على غير هذا النحو، مثل ما إذا سافر للمكاراة و طال زمانه، بأن تكررت منه المكاراة و هذا العمل من مكان غير بلده الى مكان آخر، مثل أن يخرج للمكاراة من بلده و يدخل بلدا و يحول المتاع الّذي جاء به، ثمّ اخذ متاعا آخر لأنّ يسوقه الى بلد آخر و هكذا، و في هذه المدة كان هذا المكارى في سفر واحد، و لكن كان مشتغلا بشغل المكاراة و لم يرجع الى بلده، أو يكون الحكم مخصوصا بالصورة الاولى بحيث يقال بعدم شمول وجوب القصر للصورة الثانية.

اعلم انّه بعد دلالة الرواية على وجوب القصر و الافطار في السفر الأوّل، فلا يبعد شمول الحكم للسفر الأوّل على أى وجه اتّفق، لأنّه

لا وجه لدعوى اختصاص قوله في الرواية «قصر في سفره و افطر» للسفر الّذي يكون قصيرا بحسب الزمان، و يكون متعارف اسفار المكاري، بأن يسافر للمكاراة من بلده و يحمل متاعا الى بلد آخر و يرجع مع متاع أو بلا متاع الى بلده، بل يشمل السفر الأوّل على أي وجه اتفق، فاذا سافر بعد الاقامة للمكاراة فمتى لم يرجع الى وطنه و بلده فهو في السفر الأول، و إن كان مشتغلا في ضمن هذا السفر الواحد بالمكاراة من بلد الى بلد آخر و

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 252

هكذا، فعلى هذا لا يبعد شمول الحكم للسفر الأوّل على اي وجه اتّفق.

[ردّ كلام السيد رحمه اللّه فى العروة الوثقى]

و بناء على ما قلنا في هذا المقام من شمول حكم القصر للسفر الأوّل بعد الإقامة كائنا ما كان يظهر لك ما في دعوى السيّد رحمه اللّه في العروة الوثقى في طيّ ذكر مناط كون السفر عملا للمكاري في أصل المسألة، و قوله «و المدار على صدق اتخاذ السفر عملا له عرفا و لو كان في سفرة واحدة لطولها، و تكرر ذلك منه من مكان غير بلده الى مكان آخر، فلا يعتبر تحقق الكثرة بتعدد السفر ثلاث مرات أو مرّتين» قال بعد ذلك «فمع الصدق في اثناء السفر الواحد أيضا يلحق الحكم، و هو وجوب الإتمام نعم، إذا لم يتحقّق الصدق إلا بالتعدد يعتبر ذلك».

لأنّه بعد كون القصر واجبا على المكاري في السفر الّذي ينشأ بعد إقامة العشرة في بلده مع حصول وصف المكاراة له قبل تلك الإقامة، فكيف يمكن أن يقال بوجوب الإتمام عليه في السفر الأوّل الّذي يكون مشتغلا فيه بالمكاراة و يسافر بهذا العنوان و إن طال هذا السفر، و لا

جل ذلك قلنا في حاشيتنا على العروة في هذا المقام أن «وجوب القصر في السفر الأوّل مطلقا لا يخلو من قوة».

و إن قلت: إن الحكم بوجوب القصر في هذا المقام تعبّد استفيد من رواية يونس، فلا وجه لأنّ يقاس بهذا أصل المسألة و يقال بعدم وجوب الإتمام على المكاري في السفر الأوّل الّذي يشرع في العمل بالمكاراة فيه حتى مع الصدق عرفا بكون السفر عمله لطول السفر.

فنقول: بأنّه بعد حكم الشارع على من يكون مكاريا بأنّه مع اقامة عشرة أيّام أو اكثر يجب القصر عليه مع كونه مكاريا و صيرورته متلبسا بالمكاراة، فالأولوية القطعية تحكم بأن الشخص لم يصر معنونا بعنوان المكاراة بمجرد خروجه

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 253

من وطنه بالسفر الأوّل و إن طال السفر، فكان ما قلنا من باب الاولوية القطعية.

ثمّ إنه بعد ما قلنا من وجوب الإتمام في السفر على المكاري و اخواته المذكورة في الرواية لاجل الروايات مع تفصيل و شرح منا في هذه المسألة و ما ينبغى أن يقال في هذا المقام. يقع الكلام في ما ذكر «1» العلّامة في التذكرة بعد عنوان المسألة، و جعل أحد الشرائط في وجوب القصر عنوان (أن لا يكون سفر المسافر اكثر من حضره) فإنه في الفرع ه مع ما قال في صدر البحث من كون الشرط (أن لا يكون سفره اكثر من حضره) قال ما يكون حاصله راجعا الى انّه هل يشمل حكم المكاري و ساير العناوين المذكورة في الروايات لغيرها ممّن يكون مثلهم من كون سفرهم اكثر من حضرهم أم لا؟ و يظهر من كلامه الإشكال في شمول حكم الإتمام لغيرهم. «2»

و يظهر من المحقّق رحمه اللّه في المعتبر «3» أيضا

انّه خص حكم الإتمام بخصوص هذه العناوين المنصوصة، لأنّه بعد ذكر كلام من يقول بكون الشرط هو (أن يكون سفره اكثر من حضره) و الإشكال فيه بأن لازم ذلك وجوب الإتمام على من يكون شغله المكاراة في كل شهر عشرين يوما، و يتوقف في بلده عشرة أيام، و الحال أن من أقام في بلده عشرة أيّام يجب عليه القصر في السفر بعد المقام، و بعد قوله بأن الشرط هو أن لا يكون ممّن يجب عليه الإتمام انّه تعرض لخصوص هذه العناوين، و لم يذكر حكم الإتمام لغير هذه العناوين ممّن يكون مثلهم.

______________________________

(1) التذكرة، ج 4، ص 393، مسئلة 633

(2) التذكرة، ج 4، ص 395، فرع ه

(3) المعتبر، ص 252، الشرط الرابع

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 254

فهل نقول باختصاص وجوب الإتمام في السفر على خصوص العناوين المذكورة في الروايات كالمكاري و اخواته؟ أو نقول بشمول الحكم لغيرهم يكون مثلهم في كون السفر عملهم، و كونه مثلهم شغلا مثل سائق السيارات في هذا العصر.

[يشمل الحكم لكل من كان مثل هذه العناوين]

لا يخفى عليك أن شمول حكم الإتمام لكل من يكون مصداقا لكون السفر عمله، و يكون مثل العناوين المذكورة ممّا لا إشكال فيه «و ان كان هناك كلام آخر فيما هو المراد من كون السفر عمله» كسائق السيارات حتى انّه لو لم تكن العلة المذكورة في الرواية يمكن دعوى شمول حكم الإتمام الثابت للمكاري و اخواته لمن يكون مثلهم فمن يكون مثلهم، في كون السفر عمله داخل تحت هذا الحكم و إن لم يصرح به في الرواية، لانّه بعد ما يرى العرف عدم دخالة خصوص عنوان المكاري لصيرورته موضوعا لهذا الحكم، فبالغاء الخصوصية يحكم بشمول الحكم لغيره و إن لم يكن مورد النص،

فعلى هذا لا إشكال في كون من يكون مثل هذه العناوين كسائق السيارات يكون مثل هذه العناوين في كون الواجب عليه الإتمام في السفر إذا كان السفر عمله، فافهم.

ثمّ إنّه بعد ما قلنا من انّه لا بدّ من البحث في العناوين المذكورة في رواية زرارة، و العلة المذكورة فيها من جهات قد أمضينا الكلام فيها، و نعطف عنان الكلام فعلا، بطريق الاختصار لفهم حاصل ما قلنا في المقام، الى ما ينبغي أن يقال في هذه الجهة.

فنقول بعونه تعالى: إن العناوين المذكورة في روايات الباب كانت عشرة.

و بعد استثناء الامير الّذي يدور في إمارته، و الجابي الّذي يدور في جبايته، و التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق الى سوق لما قلنا في التاجر، و لأنّ الامير و

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 255

الجابي الكذائي لا يأتي بالنظر أن يكون وضعهما هو السير و السفر دائما، لعدم تعارف كون امير ناحية في السفر في ناحيته دائما، و كذا الجابي، و هذه الثلاثة مما ورد وجوب الإتمام عليهم في خصوص رواية السكوني، فغاية ما يمكن أن يقال في حقهم الإتمام هو في ما يكون وضع الامير أو الجابي أو التاجر على السفر دائما، بحيث يكون ذلك عملهم حتى يصدق أن الامير يدور في إمارته و الجابي يدور في جبايته و التاجر يدور في تجارته من سوق الى سوق، لأنّ معنى الدور هو انّه يكون في كل يوم في مكان من امكنة إمارته أو جبايته أو تجارته.

و بعد عدم فهم ما هو المراد من الاشتقان لما قلنا من عدم معلومية ما هو المراد منه، و بعد كون الاعراب أعني: البدوي أيضا خارجا، لأنّ وجوب الإتمام عليهم يكون لأجل

علّة اخرى و هو كون بيوتهم معهم، و بعد استثناء الراعى قسما منه كما قلنا لا يجب عليه الإتمام، و هو من يرعى الدواب في أقل من المسافة، و قسما منه داخل في البدوي و هو من يرعى الاحشام و الاغنام و ليس له محل و منزل، بل كل يوم يكون في محل و يكون وضعه وضع البدوي.

فتبقى أربعة: المكاري، و الجمال، و الكري.

و هو من يكري نفسه، و لعل المراد منه هو البريد، لأنه يكري نفسه لارسال الكتب.

و الملاح لا مطلقا، بل بعض اقسامه لأنه قلنا من أن وضع بعض اقسامه يكون كوضع البدوي.

[فى المراد و ما هو مناط وجوب الاتمام]

فهذه الاربعة بالنحو الّذي قلنا يجب عليهم الإتمام في السفر لكون السفر عملهم، إنما الكلام في المراد منهم و ممّا هو مناط وجوب الإتمام عليهم.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 256

فنقول: إن الناس بعد ما كانت دواعيهم غالبا في اختيار الأمور من الحرف و الصنائع و المشاغل، هو الدنيا اعني: يكون وجه حركتهم و إقبالهم الى الأمور جهات الدنيوية، و تنظيم أمور معاشهم من هذه الطرق، فتكون المشاغل المتخذة شغلا على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون وضع الشغل و الحرفة على الإقامة و الحضر، بحيث يكون الوضع الطبيعي للمشتغل بهذا الشغل الكون في الوطن، و لا حاجة فيه الى السفر أصلا، و لو احتاج تارة الى السفر فهو خارج عن وضعه الطبيعي، و من ذلك الزراعة و نظائرها من المشاغل.

النحو الثّاني: أن يكون وضع الطبيعي لهذا الشغل على السفر، بحيث يكون بماله من وضعه في حد ذاته موقوفا على المسافرة، و لو احتاج اتفاقا الى الإقامة في الوطن كان ذلك خارجا عن وضعه الطبيعى، و من ذلك شغل المكاراة و شغل الجمال

و الملّاح و سائق السيارات، لأنّ هذه المشاغل بوضعها الطبيعي محتاجة الى السفر لحصول هذه الحرف و المشاغل في المسافرة، بل لا موضوع لهم إلّا في السفر بحيث لا يكون وقوف صاحب هذه المشاغل في الوطن إلّا على غير وضع الطبيعى، و على نحو الحركة القصرية، و يكون عيشهم و نشاطهم في السفر.

إذا عرفت ذلك نقول: بأنّه بعد التأمل في هذه العناوين أعني: المكاري و الجمال و الكري و الملّاح، يرى أن ما هو الملاك في وجوب الإتمام عليهم في السفر ليس إلا حيثية موجودة فيهم فهم متفقون في الواجدية لهذه الحيثية، و هو أن هذه المشاغل من جملة المشاغل الّتي تكون بوضعها الطبيعي موقوفة على السفر، لكونها أعمالا و مشاغل متحصلة في السفر و إن كان بينها فرق في أن المكاري يكري

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 257

الدواب، و الجمال يكري الجمال، و الكري يكري نفسه، و الملاح يكري السفينة، و لكنهم متحدون في كون مشاغلهم من المشاغل الّتي قوامها بالسفر، فعلى هذا لا يأتى بالنظر من صيرورتهم موضوعا لوجوب الإتمام في السفر إلّا لواجديتهم لهذا الحيث أعني: حيث كون الوضع الطبيعي في شغلهم هو السفر، و بهذا البيان يمكن أن يحمل قوله عليه السّلام «لأنّه عملهم» اعني: وجوب الاتمام عليهم يكون لاجل كون السفر عملهم، لأنّ الوضع الطبيعي في عملهم و شغلهم هو السفر، فعملهم عمل في السفر و السفر عملهم، و لا نفهم من العلة إلّا ما قلنا.

إذا عرفت ذلك فنقول: إن مقتضى وجوب الإتمام على هذه العناوين الأربعة مع العلة المذكورة، هو أن كل من كان عمله ممّا يكون بوضعه الطبيعى متقوم بالسفر، بحيث يكون الشغل مقتضيا في حدّ ذاته أن

يقع في السفر، و لذا يكون الوقوف في الوطن على صاحب هذه المشاغل غير الوضع الطبيعي كما ترى أن المكاري تكون إقامته في محله على غير الوضع الطبيعي، و لذا يكون نشاطه بالسفر و حظه بأن يوجد له متاع يحمله من محل الى محل آخر، و إذا وقف في بلده أو غير بلده لعدم وجود ما يشتغل به، يحصل له الكدورة، بخلاف من يكون وضعه الوقوف في الوطن فإن أمره بالعكس فإن السفر فيه الكلفة و المشقة و نشاطه بالوقوف في الوطن.

فنقول نحن ندور مدار ما بينّا من كون المناط في وجوب الاتمام عليهم مع ضم العلة هو أن كل من يشتغل بشغل يكون وضعه الطبيعى السفر في حد ذاته، فهو مصداق لموضوع حكم وجوب الاتمام، و يجب عليه في السفر الإتمام، و إلّا فلا.

فعلى هذا نقول: إن المكاري و الجمال و الكري داخل و الملاح في صورة داخل في موضوع هذا الحكم، و كذا كل من يكون مثلهم و إن لم يكن مذكورا في

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 258

الرواية كسائق السيارات في عصرنا الحاضر فإنه أيضا مثلهم لكون السفر عمله بالمعنى المتقدم.

و أمّا من كان مشتغلا بشغل لا يكون مقتضى وضعه الطبيعي أن يقع في السفر، و ليس في حد ذاته عملا سفريا في مقابل عمل الحضري، مثل المحصل الّذي بنى على الخروج من وطنه الى بلد للتحصيل، و دائما يذهب الى هذا البلد و يخرج، فإنه و إن كان بنائه على السفر و كثر سفره، و لكن حيث لا يكون تحصيل العلم بوضعه الطبيعي ممّا يوجب وقوعه في السفر من أجل شغله بالسفر.

أو الكاتب الّذي بنى على أن يخرج دائما الى بلد

للتحرير و الكتابة، ثمّ يعود الى منزله و هكذا فهو أيضا مثل المحصل، و كذا من بنى على أن يخرج للزيارة دائما مثلا من بغداد الى كربلاء، فهو و إن كثر سفره و لكن لا يشمله الحكم، لعدم كون وضعه الطبيعي على السفر من أجل شغله السفر.

[لا يلزم كون سفر المكارى لاجل النفع]

و ممّا قلنا ظهر لك انّه لا يلزم أن يكون وجوب الإتمام في ما كان سفر المكاري مثلا لاجل الاستفادة و تحصيل النفع، لما قلنا من أن ذلك من قبيل الداعي لهم، بل يكفي كون الشغل بوضعه الطبيعي السفر و في السفر و ان كان داعي الاشخاص باتخاذ هذه المشاغل هو النفع، فبناء على هذا لو سافر المكاري لاجل أن يحمل أهل بيته يجب عليه الإتمام، و أيضا لو سافر تارة و حمل متاعا مجانا الى بلده.

و ظهر لك أيضا انّه ليس مرادنا من هذا البيان في كون السفر عملهم أن يكون ذلك حرفة لهم، بأن يكون المراد من العمل هو الحرفة، بل المراد هو كون السفر عملهم لما يكون شغلهم من وضعه الطبيعي، فكل شغل يكون بوضعه الطبيعي السفر فيجب على شاغله الإتمام.

تبيان الصلاة، ج 1، ص: 259

و ظهر لك ممّا مرّ أن الضابط في وجوب الاتمام عليهم ليس كون السفر اكثر من الحضر، بحيث يكون الواجب الإتمام على من يكون سفره اكثر من حضره و إن كان ذلك لاجل التحصيل مثلا، و لا ما اعتبروا في مقام ذكر هذا الشرط بأن الشرط أن لا يكون المسافر كثير السفر، لما قلنا من عدم وجوب الإتمام على مطلق كثير السفر.

تمّ بحمد اللّه و منّه الجزء الاول من كتاب تبيان الصّلاة المشتمل على مباحث صلاة الجمعة و المسافر الى

احكام قواطع السفر

________________________________________

بروجردى، آقا حسين طباطبايى، تبيان الصلاة، 8 جلد، گنج عرفان للطباعة و النشر، قم - ايران، اول، 1426 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.